أعداؤنا الداخليين!

اعتمدت القوى الاستعمارية الكبرى ومن بعدها وريثتها (الوحيدة الآن) الولايات المتحدة الأمريكية على مسارات أساسية فى منطقتنا لم تتغير وإن تطورت أساليبها، وهي:
تفتيت الإقليم.. وإجهاض استقلال القرار الوطني بفرض التبعية كبديل عن الاستعمار القديم.. وصناعة وتحريك الصراع العربي- العربى، أو العربي- الإقليمى ثم التدخل فى إدارته.. وقبل ذلك وبالتزامن معه دعم وترسيخ و«تشريس» وجود إسرائيل كعنصر أساسى مُهَدِّد ومحفز للانقسام أحيانًا، حسب طبيعة كل مرحلة ووضعية النظام العربى فيها.
لم تختلف تلك المسارات والممارسات ولم تكن خافية أبدًا، ومع ذلك ظلت المنطقة العربية فى وضع «المفعول بها» دائمًا على مدار أكثر من قرن كامل.. وظلت فترات الاستفاقة رهينة بتوازن القوى الدولية (كما حدث مثلًا فى مرحلة التحرر من الاستعمار القديم) أكثر بكثير من كونها تعبيرًا عن قوة ذاتية.. أو كانت فى إطار مقاومة طامحة لإرساء مشروع عربى سرعان ما تم ضربه (كما حدث فى حرب السويس 1956 وما أعقبه من الوحدة بين مصر وسوريا) سواء لأن القوى الكبرى لم تكن لتسمح به، أو لأخطاء من داخله أهمها أن المشروع العربى الناصرى وقع فى مصيدة «المحاور» حين اعتمد توجهه التعبوى والسياسى على تصنيف المنطقة العربية إلى دول «رجعية» وأخرى «ثورية تقدمية».. وحين بدأ تدارك ذلك فى أعقاب ضربة 1967 القاصمة وتمكن العرب من فرض إرادتهم ووجودهم كقوة شبه موحدة الأهداف فى أكتوبر 1973، تم إهدار كل ما يمكن تحقيقه من ذلك «النصر الوحيد» لأسباب أفاض فيها المحللون وليس هنا مجال تفصيلها، لكن المؤكد أن المنطقة دخلت بعدها فى نفق مظلم ولم تخرج منه، أخطر ما فيه هو ما يمكن أن نعتبره «إعادة تعريف العدو» وصناعة أعداء جدد من الداخل بحيث يتآكل العرب ذاتيًا، وهكذا تغير مفهوم ومحددات الأمن القومى العربى، بدءًا من السابقة الكارثية باحتلال العراق للكويت، ثم بتسارع وتنامى ظهور تنظيمات الإسلام السياسى المسلحة التي نشرت حروب الإرهاب لعقود متتالية.. إلى جانب تأجيج الصراع السنى – الشيعى بوكلاء محليين لقوى إقليمية.
ابتلع العرب كل ذلك ودفعوا أثمانًا باهظة- حتى لو تصور بعضهم غير ذلك- وتآكل تقريبًا ما نسميه «النظام العربى».. لكن إذا كانت «المؤامرة الخارجية» حاكمة ومحركة وحاضرة دائمًا وستظل.. إلا أن التناقضات العربية الداخلية وتقاطع الأهداف (والمطامع) والنزوع نحو اقتناص مراكز القيادة تحت تأثير تقديرات قوة ومصالح وتحالفات (يمكن قول الكثير حولها) تظل هى العنصر الأهم فى انهيار النظام العربى.. فأنت لا تسقط إلا إذا كنت تحمل فى داخلك أسباب السقوط.
فشل العرب دائمًا فى الوصول لمعادلة تحفظ السيادة الوطنية والتعاون العربى المشترك فى الوقت نفسه، وفشلوا فى إيجاد صيغة لا يتناقض فيها الانتماء القومى العربى مع الهوية المحلية، وفشلوا فى تطوير أنظمة حكم رشيدة منتخبة بشفافية لا تغيب عنها المشاركة الشعبية ولا تنعدم فيها الحريات.. زادت الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ودخلت دول فى مرحلة التحلل الكامل (ليبيا والسودان مثلًا).. بينما كان أسوأ آثار تفكك وانهيار النظام العربى بعد نجاح زراعة إسرائيل فى المنطقة، هو صناعة وزراعة أول نظام حكم بمرجعية تنظيم إرهابى فى سوريا وهى إحدى أهم دول مرتكزات الأمن القومى العربى (فى نموذج مستحدث لنوع العلاقة والارتباط مع أمريكا وإسرائيل).
لن نأتى بجديد حين نقول إن مقدرات العرب ليست بأيديهم وأن القرارات الاستراتيجية والتحالفات تُصنع وتُفرض من الخارج.. وقد يكون من الضروى (والمؤلم) أن نستدعى هنا عبارات قالها الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل ثلاثين عامًا كاملة فى محاضرة له بباريس تحت عنوان «أزمة العرب ومستقبلهم» أمام صفوة من المهتمين بالشأن العربى جاءوا من فرنسا وعواصم أوروبية متعددة:
«هل يمكن أن يأتى الحل من الدعوة التي تعلو أحيانًا مستجيرة بما يُسمى العمل العربى المشترك ؟.. أكاد أقول إن التنادى إلى مثل ذلك- وفى أحسن الأحوال- أشبه ما يكون بالتأوه أو بالدعاء، يصدر عن مريض أو متألم يخفف به عن نفسه أو يعزيها، لكنه يعرف أن آهته أو ضراعته ليست تشخيصًا وليست علاجًا.. وإذا كانت الجامعة العربية هى مجال العمل العربى المشترك، فالمشهود أمامنا أن بيت العرب أصبح من نوع تلك القصور العتيقة المسكونة، يدخل إليه الناس بالخطأ ويخرجون منه بالهرب».
أخيرًا.. لن يؤدى إلى شىء القول بأن الجميع خاسرون مهما بدا غير ذلك للبعض.. وسيكون من قبيل التمنى (أو التوهم) أن نتصور تغييرًا لهذا الوضع المزمن البائس.. وسيظل أعداؤنا قادرين دائمًا ما دمنا نحن أعداء أنفسنا.