غزة تحت وطأة المجاعة: بيع الذهب بسعر الخبز وذكريات العائلات تُمحى على موائد الفقر.

في غزة التي أنهكتها الحرب، وأغرقتها المجاعة، لم يعد أمام أهلها سوى التنازل عما تبقى لهم من ذكريات. هناك، حيث النزوح والدمار صار واقعًا يوميًا، يتهاوى آخر ما تملكه العائلات الغزية من صبر ومصاغ ذهبي، في محاولة يائسة لشراء لقمة تسد جوعًا، أو كيس طحين يكفي ليومين.
الغزيون اليوم يسيرون بأجساد أنهكها القصف والجوع، يجرون خطواتهم الثقيلة نحو محال الصاغة، يبيعون ما ادخروه لأيامهم السوداء، وقد جاء اليوم الأسود بالفعل. الوجوه شاحبة، النظرات باهتة، والجيوب فارغة. في غزة، النساء يتخلين عن حليهن، لا من أجل زينة أو مرضاة، بل من أجل أن يحظى أطفالهن بوجبة واحدة لا أكثر.تقول المواطنة أم علاء أبو عودة: “المجاعة في غزة تجاوزت التصور، وأثقالها باتت تفوق قدرة البشر على التحمل. الأسعار وصلت إلى مستويات جنونية؛ فكيس الدقيق تجاوز سعره 100 شيقل، وكيلو الأرز بات حلمًا لأصحاب الدخل المحدود. اضطررت لبيع قرط من ذهب كنت أحتفظ به منذ سنوات، فقط لأتمكن من شراء الدقيق لعدة أيام”.أما المواطن فايز عواجة، فيروي بأسى: “بعنا مصاغنا الذهبي بعد أن استنفدنا كل ما نملكه من أموال. ما كنا نسميه “تحويشة العمر”، ذهب في سبيل الخبز والماء. لم يتبقَّ معنا سوى خاتم زواج والدتي، فبعناه وقلوبنا تنزف، لأننا نعلم أن معه نبيع جزءًا من تاريخ عائلتنا، ولكننا لم نعد نملك خيارًا آخر”.وتابع: “في لحظة البيع مرت أمامنا مشاهد عمر طويل، ذكريات طفولة، بيت العائلة، مناسبات فرح، وحكايات أم وأب.. ولكن الجوع لا يرحم، وكان علينا أن نؤمن بعض الطحين لنعيش”.رمزي المدهون، كغيره من المواطنين، اضطر هو الآخر لبيع ما ادخره من ذهب خصصه سابقًا لتعليم أولاده، إذ داهمته الحرب، وتركته مع عائلته وسط الخيام والمجاعة، ليبدأ معركته الجديدة من أجل البقاء.ويؤكد الصائغ محمد أبو الحسن أن الإقبال على بيع الذهب بلغ ذروته خلال الحرب، مشيرًا إلى أن الغالبية باتوا يبيعون قطعًا قديمة وثقيلة الوزن، كثير منها يعود لأجيال ماضية، في دلالة على حجم الأزمة.وأضاف: “حالة الأسواق تعاني من شح السيولة بشكل غير مسبوق، حتى أن نسبة العمولة لتحويل الذهب إلى مال نقدي وصلت إلى 45%، والأسوأ أن الأوراق المالية المتداولة أصبحت بالية وغير مقبولة عند كثير من التجار، ما يعمق معاناة الناس”.وفي تقرير لها، قالت وكالة “الأونروا” إن الفلسطينيين في غزة باتوا يقتلون أثناء سعيهم للحصول على الطعام، مشيرة إلى أن المساعدات الإنسانية شبه متوقفة، وأن نموذج توزيعها يعرض الأرواح للخطر ويشتت الانتباه عن الجرائم المستمرة. وأكدت الوكالة أن إسرائيل تواصل منع دخول المساعدات بشكل آمن وكافٍ، مطالبةً برفع الحصار والسماح بوصول المساعدات دون عوائق.من جانبه، حذر برنامج الأغذية العالمي من كارثة وشيكة، مشيرًا إلى أنه منذ 19 مايو لم يدخل سوى عدد محدود من الشاحنات، مقارنة بنحو 600 إلى 700 شاحنة كانت تدخل يوميًا قبل الحرب، وأكد أن المجاعة باتت وشيكة، وأن ما يحتاجه السكان هو إمدادات مستدامة، لا حلول ترقيعية لا تفي بالحاجة.منذ السابع من أكتوبر 2023، يعيش قطاع غزة تحت نير حرب إبادة وتجويع شاملة، حصدت أرواح عشرات الآلاف بين شهيد وجريح ومفقود. وبينما يبحث الأهالي عن الطعام في محال الصاغة، لا تزال ذكرياتهم تباع على طاولات الحديد البارد، وتذبح أمام عيونهم كلما خطا أحدهم نحو الخبز بثمن الذكريات.