حكاية ياسين.. وألاعيب «بتوع ربنا»!

حكاية ياسين.. وألاعيب «بتوع ربنا»!

ما زالت تداعيات قضية الطفل ياسين.. محل جدل وأخذ ورد.. وكلام فارغ. 

القضية عادية.. عادية جدًا، لكن ما أثارته من شد وجذب لا يجب أن يمر هكذا. محاولة تديين القضية لا يجب أن تمر أيضًا.. ومحاولات تسييسها هى الأخرى لا يجب أن تمر. 
الأصل فى المجتمعات أن الجرائم فردية. الخروج على القانون أو على مبادئ الإنسانية ظاهرة فى المجتمعات. 
لا يتعلق انتهاك القانون بسن.. ولا يعرف الطائفة أو النوع. فى علم اجتماع الجريمة يدرس المتخصصون أسباب الجرائم ونفسيات المجرم وسلوكيات المجنى عليه. لا يدرسون الدين.. ولا جنس الجانى ولا جنس المجنى عليه. 
صحيح بعض الجرائم أكثر إثارة.. وبعضها أكثر مدعاة للتقزز. 
لكن الجريمة تظل فى الأخير فعلًا خارجًا عن السائد يهدر الحصانة الفردية فى المال أو العرض أو النفس. 
بعض الجرائم طائفية.. هذا صحيح، لكن ظروف الجرائم الطائفية واضحة، يحيلها بعض الدارسين إلى علم الاجتماع السياسى، أكثر ما يحيلها آخرون إلى علم الاجتماع الدينى. 
لا يمكن إضفاء صفة الطائفية على جريمة.. لمجرد ديانة الجانى. يعنى دين الجانى لا يكفى وحده لتصنيف الجريمة.. أو دوافعها.  -1- 
تظل تداعيات قضية ياسين.. فى حاجة إلى مزيد من الدراسة والفحص. هى فى حاجة إلى الوقوف عندها للملمة الخيوط من هنا وهناك.. حتى تكتمل الصورة. 
تسييس الجرائم الفردية وتحويلها إلى صراعات دينية مؤشر بالغ الخطورة. تديين الجرائم والخروج بها من خانة الفعل المؤثم.. إلى براح السياسة فى مجتمع يعانى هى أكثر من خطرة.. وأشد من كارثة. 
فتش فى كواليس تداعيات قضية ياسين عن الإخوان. 
فتش عن اللعب على وتر الفتنة، ومحاولات التفرقة، وفتش أيضًا عن محاولة استغلال الأزمات، والنفخ فيها، وتضخيمها، وإضافة تفاصيل غير حقيقية، وتفسيرها تفسيرات ما ورائية وهمية، ولىّ عنق الأحداث، ثم إضافة بهارات شيطانية، وأملاح معدنية سامة.. وتصديرها للمجتمع.. هى الأخرى كلها عوامل أكثر من كارثية. 
لا تفسير لدى للآن لاحتشاد بعضهم على باب المحكمة فى أولى جلسات قضية ياسين باللافتات.. والشعارات. 
رغم قلة أعدادهم، لكن تظل فكرة التظاهر مناصرة لطرف ضد آخر فى قضية «جنائية» منظورة غريبة. 
أكثر المتظاهرين أمام المحكمة كانوا أطفالًا. حمل بعضهم لافتات.. وحملوا فى الوقت نفسه رسائل آخرين. 
كما لو أن القضاء فى حاجة إلى رأى عام ليحكم. كما لو أن المحكمة فى حاجة إلى شعارات خارج قاعتها.. للرأى، وكما لو أن هيئة المحكمة فى حاجة إلى شعارات مكتوبة على لافتات ورقية.. لإصدار حكم!. 
لا أفضل فى تفسير الحوادث نظرية المؤامرة على طول الخط. لكن أحيانًا ما تكون الحيلة ظاهرة.. وكثيرًا ما يكون السم فى أنياب الثعابين والشياطين واضحًا. 
حملت قضية ياسين بفعل فاعل كثيرًا من البنود فى خطابات طائفية حاولت التشكيك فى القضاء، وحملت حيلًا مزوقة لزرع انقسامات، وطريقًا لترويج وإزكاء طائفية ليست مبررة.  -2- 
لا داعى للإنكار أن فى الرأى العام تيارات اجتماعية سلفية، ورثناها عن الثمانينيات والتسعينيات ما زالت بطاقاتها الاجتماعية سارية، وما زالت رخصتها الفكرية هى الأخرى سارية. 
فى الأزمات، تلتقط تلك التيارات خيوط اللهب فى الوقت الذي يزيد أهل الشر من صب الزيت على النار. 
لاحظ أن الانقسام فى الآراء مختلف عن الانقسام الاجتماعى. الخلافات فى الرأى فيما يتعلق بالمسائل المنظورة أمام القضاء واردة. فى المجتمعات الأوروبية لا تخلو قضية رأى عام من استقطابات حادة بين مؤيدين ومعارضين.. وبين داعمين ورافضين. 
لكن تظل الاختلافات فى الآراء الشعبية، غير التحزبات الاجتماعية. الخلاف هنا يفرق عن الاختلاف هنا. 
التحزبات الاجتماعية فى مجتمعات غير محصنة اجتماعيًا خطيرة.. واستمرار اللعب على أوتارها أكثر خطورة. 
فى الأوساط المحصنة «اجتماعيًا» يتعامل الفكر الجمعى مع الحوادث بالنظر إليها بوصفها جرائم «فردية». 
تخضع الجرائم الفردية فى المجتمعات المحصنة اجتماعيًا لمحاسبة القضاء بعيدًا عن التسييس أو التديين. 
العكس حدث فى قضية ياسين. 
اشتعلت مواقع التواصل فى ساعات. امتدت النار إلى مدارس الكنيسة، وامتدت إلى رموز ومؤسسات. 
على مواقع التواصل، شككوا فى مسؤولين، وطعنوا فى شخصيات لها اعتبارها وسيرتها فى الخدمة الدينية. 
وفى ساعات تحولت قضية ياسين إلى بروفة لإشعال الحرائق ومد الوقود إلى مساحات من أوراق شجر يابسة. 
مرة أخرى.. فتش عن الإخوان. 
فتش عن خلايا مواقع التواصل ولجان الإنترنت.. تدبر محاولات التجاوز بالحادثة والقضية والمسألة كلها إطارها الإنسانى.. أو الجنائى. 
قنوات معروفة كثفت الهمز واللمز وامتد الخيط بالمسألة إلى محاولة تصويرها بأنها صدام بين مكونين.. أو فئتين.. أو مكونين.. إسلامى ومسيحى. 
المشكلة فى تيار فكرى سلفى المشاعر سلفى الهوى، تلقى خيط الفخ، ربما دون أن يدرى، وهبوا دفاعًا عن الدين.. بينما فى المقابل هب من وقف مدافعًا على الناحية الأخرى عن دين وربط بين جريمة جانٍ وبين عقيدة. 
منذ متى والربط بين عقيدة جانٍ وبين ملابسات جريمته.. جائز؟ منذ متى وديانة مجنى عليه تتحول بقدرة قادر إلى معيار لحقه فى الإنصاف والمحاباة؟ 
فى قضية ياسين، كان التلاعب بمشاعر الجماهير أداة للفتنة، وأداة فى محاولة إثارة الناس بعد تغمية الأعين، وكانت أيضًا أداة للتهييج والإثارة.. فى محاولة للدفع بالسلم الاجتماعى إلى ستين داهية. 
لا نعقب هنا على أحكام القضاء، والدعوى فى قضية ياسين مستمرة، بدخولها مرحلة تالية من مراحل التقاضى. 
لكن مهما كانت النتائج، فإن أحكام القضاء هى عنوان الحقيقة.  -3- 
استغلت كتائب الإخوان قضية ياسين بشكل ممهنج. ضخمت التفاصيل، وتركت الجريمة وملابساتها والواقعة كلها، وراحت بالأضواء ناحية خلفيات الجانى الدينية، وخلفيات المجنى عليه العقائدية. 
كالعادة كما اعتدناهم، يعيد الإخوان موضعة الكاميرا فى النظر للأحداث من زاوية المكون العقيدى.. لا المكون القانونى والإنسانى. 
الطائفية فى الغالب أداة إخوانية لإشعال الشارع. 
سبق وحرق الإخوان الكنائس.. دفاعًا عن الإسلام لإحراق الشارع بنفس النار التي اشتعلت فى بيوت العبادة. 
 سبق وحاولوا شق بطن المجتمع وجرحه وقطع أوردته بآلات حادة ضربًا على وتر الطائفية.. وإراقة دم المواطنة بعد 2011.. وقبل 2011.. وطول تاريخ الجماعة. 
الأساليب ليست جديدة، وانتهاز الفرص والمناسبات لتوظيفها فى البلبلة.. وتغذية مشاعر الغضب الجمعى، ورد المسائل الخلافية إلى صراع ديني ومذهبي وسياسي ليس جديدًا هو الآخر على جماعة تمارس الخبث، كما تمارس العنف، وتحترف إراقة الدم، وتدمن إفساد ذات البين ثم يعودوا لتصدير أنفسهم للمجتمع على أنهم أهل الله.. وبتوع ربنا. 
مهم إعادة دراسة البلبلة فى قضية ياسين، بوصفها بروفة اجتماعية لإشعال النار وإشعال اللهب، وتأجيج الأحوال، وصولًا إلى فوضى. 
خطورة الواقعة، أيضًا فيما تتيحه عقول دارجة لنفسها من فرص التأثر بلا فحص، وفرص التصديق بلا درس، فى محيط تنتشر فيه الشائعات بسرعة، وتتناثر فيه المعلومات المغلوطة على مواقع التواصل فى ساعات، فيهب مائة ألف عفريت فى صورة بنى آدم للتعامل على أنها مسلمات، والتعاطى مع خزعبلات على أنها معلومات مصدقة.. وحقائق حصلت على أرض الواقع. 
الأزمة جارية.. والإخوان يخوضون مع المجتمع المصري معركة «وعى». يعمل الإخوان على هدم الوعى أو خلخلته واللعب على نار تنشوى عليها «حماية اجتماعية» هى حصانة أولية حسب المفترض. 
يعمل أهل الشر على تزييف الوعى الجمعى، بشائعات مدروسة تارة، ووقائع ملفقة تارة أخرى. يستهدفون ثقة المصريين مرة.. ويستهدفون النظرة الجمعية إلى مؤسسات الدولة مرات. 
اختلاق وقائع غير حقيقية مرة.. واستغلال بذور أحداث، للعب بها، وإعادة رسم خطوطها، ثم تصديرها فى «أوانى مزخرفة مليانة بالسم مرات أخرى». 
النسيج الاجتماعى على رأس أولويات ألاعيب الشياطين، ومواقع التواصل أداة أولى.. وأخيرة. 
قضية ياسين.. وما حدث فى قضية ياسين.. والمحاولات التي دارت على هامش قضية ياسين ناقوس خطر.. وجرس إنذار. 
لا أحد يعرف للآن، كيف لا يستطيع إخوان الإرهاب استيعاب أن المصريين لم يعودوا يقتنعون بأن أهل التطرف ممكن أن يكونوا أهل الله؟ ولا يمكن أن يكونوا بتوع ربنا!