ترامب.. كفاك تضليلًا

ترامب.. كفاك تضليلًا

غريبٌ أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكأنه يتعمّد تزوير التاريخ، أو الزج بمصر للمحاسبة على فاتورة الضربات الأمريكية للحوثيين في اليمن، رغم علمه يقينًا أن الهدف الرئيسي من تلك الضربات هو وقف الصواريخ الحوثية المتلاحقة على الداخل الإسرائيلي، وأن مصر أكبر دول العالم تضررًا من الاستهداف الحوثي للسفن في البحر الأحمر، والذي أدى إلى انخفاض نسبة الملاحة بقناة السويس وخسارتها نحو 8 مليارات دولار من عوائدها.

 فمنذ أيام، نشر الرئيس الأمريكي تدوينة غريبة على منصته “تروث سوشيال” طالب فيها بعبور السفن الأمريكية لقناتي “السويس وبنما” بالمجان، محاولًا تزوير التاريخ والادعاء بأنه “لولا أمريكا ما كان هناك وجود للقناتين”. التوجّه الأمريكي غير المنطقي، عبّر عنه صراحة المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي أيضًا، مؤكدًا بمنطق غريب “أن الضربات على الحوثيين تهدف إلى استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر، وسيستفيد منها الشركاء حول العالم بمن فيهم مصر، التي عليها المشاركة في أعباء العملية، ومنح السفن الأمريكية حرية عبور قناة السويس بالمجان كأحد طرق تقاسم أعباء الحرب”. المضحك أن التصريحات غير المنطقية التي أطلقها ترامب، سبق أن فضحها تطبيق “سيجنال” في مارس الماضي، حينما نشر محادثات سرية دارت بين مسؤولين أمريكيين حول الهجوم الأمريكي على اليمن، كشف خلالها مستشار ترامب “ستيفن ميلر” عن نية الرئيس الأمريكي مطالبة مصر ودول أوروبية بتحمّل النفقات الباهظة للحرب على الحوثيين. ورغم غرابة الطلب الأمريكي، فإن القاهرة آثرت الصمت، وفضّلت حل الأمر بالطرق الدبلوماسية بعيدًا عن ضجيج الإعلام، لا سيما أنها تدرك جيدًا الهدف الخفي من وراء الضغط الأمريكي، الذي يهدف لتوريطها ماديًا أو عسكريًا في الحرب على الحوثيين، والتي يرى فيها ترامب نفعًا مباشرًا لقناة السويس، على عكس النظرة المتزنة للقاهرة التي لا ترى في الحرب حلًّا لعودة الأمن للملاحة في البحر الأحمر. ولأن النظرة المصرية للأحداث تختلف عن الرؤية الأمريكية المنحازة على الدوام لإسرائيل، فإنها ترى أن استعادة استقرار الملاحة العالمية في المنطقة لن يكون بالحل العسكري، وإنما بالعودة إلى جذور المشكلة ووقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي كانت وما زالت السبب المباشر في استهداف الحوثيين للداخل الصهيوني والسفن في البحر الأحمر. غير أن ما يدعو للعجب في تلك القضية ليس النظرة الأمريكية غير المتزنة تجاه مصر فحسب، بل في خروج الرئيس الأمريكي مدّعيًا كذبًا أنه لولا أمريكا ما كانت قناة السويس، التي يقول التاريخ إن فكرتها بدأت قبل قرون من ظهور أمريكا على خريطة العالم. فبالعودة إلى التاريخ، نجد أن فكرة إنشاء قناة السويس بدأت في عهد الفراعنة، وتحديدًا في القرن العشرين قبل الميلاد، حينما شرع الملك سنوسرت في إنشاء “قناة سيزوستريس” عام 1847 قبل الميلاد، غير أنها توقفت بعد سنوات لافتقارها إلى الصيانة، إلى أن أُعيد إحياؤها خلال العصر الروماني، أعقبها إضافة وصلة جديدة ربطت عاصمة مصر بخليج السويس خلال حقبة الخلافة الإسلامية. وتطور الأمر خلال حقبة الاحتلال الفرنسي لمصر، حينما شرع العلماء في دراسة فكرة إنشاء قناة تربط البحرين الأحمر والمتوسط، تمخضت في عهد الخديوي سعيد في عام 1854 عن منح المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس امتيازا لحفر قناة السويس، التي تمت بأكملها بأيدٍ مصرية خالصة، وانتهت بافتتاحها عام 1869.بالتأكيد، لا يليق برئيس أكبر دول العالم اقتصاديًا وعسكريًا أن يكون مضللا، وهو ما شهد به الواقع والتاريخ في حالة ترامب، لا سيما أنه يعي جيدًا أن تاريخ القناة يعود لما قبل الولايات المتحدة بقرون، وأن الضربات الأمريكية تهدف إلى وقف الصواريخ الحوثية المتلاحقة على تل أبيب، وأن عودة الاستقرار للملاحة الدولية في البحر الأحمر لن تتحقق سوى بتطبيق الرؤية المصرية بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة.. وكفى.