تدمير آثار غزة.. الحرب على الواحد وثلاث من عشرة من مساحة فلسطين المحتلة

بدعوة كريمة من د. أيمن وزيري رئيس اتحاد الآثاريين المصريين وفي مقر اتحاد الآثاريين العرب بالشيخ زايد سعدت بحضور ندوة موسعة في الثالث في مايو الجاري 2025، وفيها شارك عدد من أهل العلم والمعرفة الباحثين في الآثار، وكان الحديث عن المخاطر التي تتعرض لها المواقع الأثرية والتراثية وقضايا أخرى مهمة ذات صلة.
وقد حدث ذلك البوح المعرفي في مساحة من الحرية الأكاديمية المنضبطة، وفرها اتحاد الآثاريين العرب ورئيسه العالم الجليل د. محمد محمد الكحلاوي.وتعددت الرؤى والمعلومات والمقترحات إلا أن د. أحمد البرش مدير آثار غزة قد طرح في كلمته معلومات وصورا موثقة عن تدمير آثار غزو، خلال العدوان الأخير عليها، لم تفارق عقلي منذ سمعتها وشاهدتها وكأنني أسمعها في دهشة المرة الأولى.أول المعلومات البديهية والمتواترة والمعروفة عن مساحة غزة، وقد أثارت تلك البيانات تأملي ودفعت إلى عقلي ووجداني بحزن جديد، فحقا تحمل الأرقام حقائق ورؤى عميقة عندما نتأملها.ذكر د. أحمد البرش أن مساحة غزة هي واحد وثلاثة من عشرة (1.3) من مساحة فلسطيــــــــــن التاريخيـة.ورغم أن المعلومة مستقرة ومنتشرة إلا أنني سألت نفسي مجدداً: ماذا يريد الاحتلال الإسرائيلي من تلك الحرب الدموية على هذه المساحة الصغيرة جدا، كل تلك المـــــدة؟إنها جغرافيا مساحة بسيطة جدا، فهو يريد كهدف نهائي السيطرة التامة عليها لإنهاء فكرة وجود المقاومة تماما، إنهاء البقية الصغيرة جدا جدا من مساحة فلسطين المحتلة.بينما تبدو تلك المساحة الصغيرة الأخيرة للعالم، وكأنها حقاً أكبر من ذلك بكثير على الصعيد الجغرافي، لأنها صمدت طوال تلك المدة منذ بداية الطوفان في السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن، إذ يبدو وكأنها كالمسيح ضد العالم.تصور العالم كله أنها عملية نوعية للمقاومة أسمتها طوفان الأقصى وردت إسرائيل بعملية السيوف الحديدية، وتصورنا أنها لن تصل إلى هذا المدى، إلا أن طول المدة وحجم الدمار يؤكدان الرؤية الاستراتيجية في إتمام الاحتلال تماماً والسيطرة على المساحة الصغيرة جدا جدا من فلسطين التاريخية.إنها حقا يمكن تسميتها الآن بحرب الاستيلاء على الواحد وفاصل ثلاث من عشرة من مساحة فلسطين كلها، حتى يتم للاحتلال السيطرة التامة، أما الضفة الغربية فهي تتعرض على غياب المقاومة عنها للتأكل التدريجي عبر الاستيطان.فهل حقا رغم بداهة البيان والرقم، إلا أن النظر فيه يؤكد ذلك الهدف الصهيوني الواضح والمعلن، بينما يقف العالم متفرجاً وتدعم القوة الأمريكية العظمى هذا الهدف، بل وتسعى للحصول على مكاسبها المستحدثة فيه.هل ندرك أن مساحة غزة هي حقا تلك المساحة الصغيرة جدا جدا جغرافيا، وليس مساحة دولة الاحتلال هي تلك المساحة الصغيرة التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا في حديثه الغرائبي المثير للضحك الأسود.أما أمام المعلومات الأخرى والصور الموثقة لتدمير آثار غزة فنحن أمام مسألة مفزعة للغاية.فهل في سياق متجدد يصبح مع مخالفة القانون الدولي الإنساني الواضحة على كل الأصعدة ومخالفة الاتفاقيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، يصبح من المجدي أن نذكر أيضا بمخالفة اتفاقية لاهاى بشأن الآثار؟، وهي الاتفاقية التي جاءت كرد فعل على الدمار الكبير الذي لحق بالأثار الإنسانية وتراث البشرية عقب الحرب العالمية الثانية.فهل يأخذ اتحاد الآثاريين العرب خطوة قانونية دولية ويدعم الآثاريين الغزاويين بمحاولة إطلاق دعوة قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بشأن تدمير آثار الإنسانية التاريخية؟ في غزة؟ وذلك لمخالفة الاتفاقية الدولية في هذا الصدد، وهي اتفاقية لاهاي التي تهدف إلى حماية التراث الثقافي أثناء النزاع المسلح والاحتلال، وهي الاتفاقية التي تم توقيعها عام 1954، وتطويرها في عام 1999.فهذه مسألة يجب البدء فيها حفاظاً على التراث والهوية والتاريخ في غزة، والحفاظ بالتأكيد على تراث الإنسانية.المشاهد الأبرز للدمار رصدها المختصون الآثارييون في غزة وهي تدمير المسجد العمري ومقابر الأتراك والمقابر التاريخية في غزة وحمام السمرة التاريخي والذي أداره السامريون سنوات طوال، وغيرها من الآثار الأخرى، وهي موثقة ومطروحة على الرأي العام الدولي منذ مدة وتجدد طرحها الآن، إذ أن أهل غزة ومجتمعها العلمي قد حاول في نظرة مستقبلية تستشرف انتهاء الحرب، الحفاظ على الركام المدمر والأحجار التاريخية، إذ بذل الأثاريون في غزة جهدا عمليا واقعيا لترقيم الأحجار التاريخية المنهارة بفعل الدمار والعدوان الإسرائيلي على عدد من الآثار ومنها المسجد العمري وحمام السمرة وغيرهما، وتم جمع ما بقى وتغطيته والحفاظ عليه أملا في إعادة إقامة الأثر بمكوناته الأصلية في مكانه حفظا للتاريخ والتراث الإنساني، في مرحلة إعادة إعمار غزة بعد انتهاء الحرب. وفي إطار الحرب على الآثار الفلسطينية في غزة المستهدف هو الأثر، لأن الأحجار دليل تاريخي مادي واضح ينطق بالهوية التي يسعى هؤلاء للقضاء عليها ومحوها تماما، أنها الهوية الفلسطينية التاريخية العربية ذات الصلة بتاريخ الأديان السماوية.ما ذكرته هو أبرز المواقع الأثرية المدمرة، بينما حقا تم تدمير أكثر من مئتي موقع أثري وتاريخي في غزة، وهو أمر متواتر منذ مدة في المحافل الدولية ودوائر الإعلام المتعددة، وأبرز ما في هذا الأمر أنه قد تم تدمير ونهب مخزن آثار غزة، والذي تم جمع محصلة عمليات التنقيب والقطع الأثرية التي تم العثور عليها خلال سنوات وإيداعها فيه.وقد كان المخزن مطابقا للقواعد العلمية لحفظ الآثار، وتم تدميره وسرقة محتوياته من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فماذا فعلت قطع الآثار وهي ترقد صامتة شاهدة على التاريخ كي يتم العدوان عليها؟بالتأكيد يبقى هذا الأمر صامتا إزاء صوت الألم لأطفال غزة الذين لا يجدون ما يعينهم على البقاء أحياء قادرين على التنفس، وجرائم القتل والإبادة الجماعية والأولويات الصارخة اللاإنسانية في الحرب على غزة، لكن يبقى التذكير ضرورة إحتراما لجهد الأثريين الفلسطينيين المتصل والمستمر حتى الآن في الحفاظ على المنجز الإنساني هناك.بقي أن أشير إلى أنها حرب على الواحد وفاصل ثلاث من عشرة بالمئة جغرافيا من مساحة فلسطين التاريخية، وحرب على التاريخ والماضي والهوية، وعلى تراث الإنسانية.