«كارمن».. أسطورة العشق والغواية تتجدد على مسرح الطليعة

«كارمن».. أسطورة العشق والغواية تتجدد على مسرح الطليعة

مثل شاعر أو أديب عشق الحرية وهام على وجهه متغزلا فى حسنها فتجسدت أمامه امرأة فاتنة ظل يتبع طيفها وكأنها ظلا يطارده؛ كما وصفها فى مخيلته امرأة ذات «روح شريفة وجسد عاهر» هكذا كان حال حبيب «كارمن» أسطورة العشق المتربعة على عرش الغواية .. قدمها المخرج المسرحى ناصر عبد المنعم فى رؤية فنية ممتزجة بالإبداع الذهنى والبصري؛ عمل فنى حرك فيه عبد المنعم مع معد النص المسرحى محمد على إبراهيم وجدان وذهن المتلقى بمسرح الطليعة؛ لم تعلم أعشقت “كارمن” أم أبغضتها.. تعددت مستويات الترقب والتلقى والمتابعة لرواية “كارمن” الطليعة التي تتربع اليوم على عرش الرؤى المسرحية التي سبقت وأن تناولت نفس الرواية بقراءات أخرى متعددة.

 “كارمن”.. رواية كتبها المؤلف الفرنسى بروسبير مريميه عام 1846 ألهمت جورج بيزيه عام 1873 ليصنع منها أوبرا خلدت موسيقاها حتى اليوم.. تتناول قصة “كارمن” الغجرية العاملة فى مصنع التبغ والتي تقوم بجرح إحدى زميلتها بعد مشاجرة عنيفة بينهما يوكل للضابط “دون خوسيه” حراستها بعد إلقاء القبض عليها لكنها تتمكن من إغوائه والهرب منه؛ يقع دون خوسيه فى شباك هذا الحب العنيف حتى يخسر كل شيء مهنته وحياته بسبب هذا العشق ويضطر للاندماج فى حياة هؤلاء الغجر ليظل بجانبها ويصبح قاطع طريق! يكمن جوهر اختلاف “كارمن” الطليعة فى إمكانية رؤيتها بأكثر من قراءة وعلى أكثر من وجه لك أن ترى “كارمن” قصة حب مأساوية؛ ولك أن تراها لوحة فنية تعكس وتتناول جانبا من حياة الغجر؛ ولك أن تقرأ فى مضامينها أبعادا سياسية وإنسانية رفيعة؛ فلم يشأ مخرجها ومعد النص المسرحي.. أن يعزفا لحنا واحدا مزجا مجموعة من الألحان المتنوعة لتخرج “كارمن” محملة بهذه الأمزجة مزاج الرومانسية.. العشق الغدر والخيانة؛ ومزاج الحرية التي يلاحقها الأدباء والشعراء والثوريون المثاليون فى مخيلتهم ولا يدركونها وكأنها امرأة لعوب عصية على الإمساك بها وبلوغها؛ ومزاج الصراع الطبقى بين مجتمع الجنود النظامى المستقر أو حياة المدنية وحياة المهمشين من الغجر: ومن ثم الكشف عن جوانب الفوضى والظلم بينهما؛ هذا التناقض بين عالمين أحدهما يدعو للاستقرار والآخر منحل من قيد القوانين والقيم الإنسانية لا يستطيع أصحابه الدخول فى نظام صارم دائما ما تكون النتيجة الثورة بالخروج على هذا النظام ومقاومته بكل السبل.. وبالتالى لك هنا كل شيء ويبقى الإبداع هو سيد الموقف فى هذا العمل الفنى الثري.انقسمت خشبة المسرح إلى حانة احتوت على غرفة داخلية أغلقها مهندس الديكور أحمد شربى بستار شفاف، تلك الغرفة التي تجتمع فيها كارمن بعشاقها؛ ثم توزع على خشبة المسرح مشاهد متفرقة بين السجن وساحة المعارك بين دون خوسيه وعشاق حبيبته الذي يتخلص منهم واحدًا تلو الآخر بما فيهم زوجها الغجري؛ ليوازن مهندس الديكور بين الصورة المسرحية والأحداث الدرامية الدامية للرواية والتي تنتهى بمقتل “كارمن” ذاتها؛ طاف السرد الروائى وأحداث العمل بين حبيبها وقارئة التاروت “العرافة” التي تنبأت بمصيرها ومصير قصة الحب المستحيلة بين هذا الضابط العاشق الذي لم يفلح فيما فشل فيه الرجال.. وتلك الغجرية التائهة فى الأرض.لم يتوقف التعبير عن غواية “كارمن” وجموحها ونفورها بمجرد كلام منطوق جاء على لسان حبيبها “دون خوسيه” الذي يبدأ العرض وينتهى من خلال سرد روايته بتفاصيلها أثناء سجنه.. بينما كان لرقصة الفلامنكو حضورا آخر أكثر بلاغة وتعبيرا عن هذا العنفوان وذلك النفور كيف أبرز الرقص قوة وعنفوان وغدر هذه السيدة التي لم يتمكن الحبيب من تطويعها والسيطرة على نفورها؛ تلك الرقصة التي ولدت أيضا بين أحضان “الغجر” لتعبر عن عمق ثقافتهم وفلسفتهم فى الحياة عن هذا المجتمع غير المستقر الذي تميزه الفوضى ويقتله الاستقرار؛ هكذا كانت “كارمن” تحيا بالفوضى كالطير الجامح كل يوم فى حضن غريب ترفض الحب والأمان الذي يعد بالنسبة لأمثالها فخًا كبيرًا.. هنا يبرز دور رقصة الفلامنكو التي توزعت على مشاهد العمل والتي كانت الأعمق تعبيرا عن طبيعة تلك السيدة الهوجاء تتميز رقصة الفلامنكو بالثورة على القيود تنفر فيها المرأة من قيد الرجل فى شموخ وكبرياء وهو ما يبدو فى حركة الأرجل والجسم واليدين بانتصاب الجسد والرأس لأعلى وضرب الأرض بقدميها والتحرك بسرعة وليونة خاطفة.. تعبر هذه الرقصة عن أحزان الغجر وأفراحهم فهى تحمل وجهى النقيض بين البكاء على التفرق والتشرذم بين الصحارى والمدن وبين بهجة الحرية وعدم الاستقرار!أجادت ريم أحمد فى دور “كارمن” الجمع بين الأداء الحركى برقصة الفلامنكو وأداء دور كارمن تمثيليا، حيث بذلت ريم جهدا مضاعفا بإتقان هذه الرقصة مع الإيحاء بمضمونها الجسدى، كما جمعت بين براءة الوجه وسوء الطباع لتعبر وبدقة عن جوهر الوصف الأول لها الذي نعتها به  الكاتب “روح شريفة ذات جسد عاهر” بوعى ونضج كبير أدركت ريم أحمد عمق هذه الشخصية الاستثنائية على مستوى الدراما والكتابة المسرحية وكانت على قدر المسؤولية فى القيام ببطولة هذا العرض الذي تكتب به شهادة ميلادها كممثلة مسرحية ذات حس فنى رفيع؛ شاركها البطولة ميدو عبد القادر فى دور “دون خوسيه” ونهال فهمى فى دور “ميكائيلا” ومحمد حسيب فى دور “باستيا” صاحب الحانة؛ كما كشف المخرج ناصر عبد المنعم عن مواهب شابة بهذا العمل، حيث أبدع كل من ليديا سليمان فى دور العرافة والتي اتقنت التمثيل والغناء بهذا الدور؛ وعبد الرحمن الجميل فى دور “خوسيه ماريا” زوج كارمن حاد الطباع لعبه عبد الرحمن بمهارة واقتدار وكأنه أحد الممثلين المحترفين بالمسرح منذ زمن بعيد؛ محمد العرجاوى فى دور “اسكاميلو” مصارع الثيران أحمد علاء “اليخاندرو”؛ أحمد البدالى “الضابط زونيجا”؛ العرض ديكور وملابس أحمد شربي؛ إعداد موسيقى حازم الكفراوي؛ استعراضات سالى أحمد؛ إضاءة أبوبكر الشريف؛ كتابة مسرحية محمد على إبراهيم.