الكتاتيب في مملكة صنغاي: وسيلة لنشر العلم والثقافة

الكتاتيب في مملكة صنغاي: وسيلة لنشر العلم والثقافة

تُعدّ مظاهر الحياة العلمية في مملكة صنغاي من أبرز ملامح ازدهارها الحضاري، حيث تنوّعت وسائل نشر العلم والثقافة الإسلامية فيها، مستندة إلى تقاليد تعليمية متوارثة ظهرت في مناطق السودان الغربي منذ وصول الإسلام إلى جنوب الصحراء الكبرى. وكان التعليم، منذ ذلك الحين، من الدعائم الأساسية التي اعتمد عليها علماء المسلمين في نشر العقيدة، وترسيخ القيم الدينية في المجتمعات التي وصلوا إليها، وقد قام التجار المسلمون والدعاة والمعلمون بدور محوري في حمل رسالة الإسلام إلى بلاد السودان الغربي، فمارسوا التجارة، إلى جانب التدريس والدعوة إلى توحيد الله، فصار التعليم وسيلة لا تنفصل عن النشاط الاجتماعي والاقتصادي والديني.

 وبلغت الحركة العلمية قمة ازدهارها في مملكة صنغاي خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين (الخامس والسادس عشر الميلاديين)، حيث تعددت مؤسسات التعليم وانتشرت وسائل نشر المعرفة في أنحاء المملكة، بما يعكس اهتمام حكّامها وعلمائها بتثبيت العقيدة الإسلامية في نفوس السكان، وتعزيز مكانة صنغاي كمركز علمي مرموق في غرب أفريقيا. وكانت الكتاتيب من أبرز هذه الوسائل التي اعتمدت عليها المملكة في تحقيق هذا الهدف كانت الكتاتيب، التي حظيت بمكانة خاصة في المجتمع الصنغاي، وأسهمت بدور فعّال في نشر العلم والثقافة الدينية بين مختلف فئات السكانالكتاتيب في مملكة صنغاي
شكلت الكتاتيب الوسيلة التعليمية الأولى في مملكة صنغاي، حيث انتشرت انتشارًا واسعًا منذ نهاية القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن عشر الهجري). وارتبط ازدهارها بازدهار المساجد والحياة العلمية في مدن المملكة، لا سيما في الحواضر الكبرى مثل تمبكتو وجني وكنجور وغيرها.
تنوعت أماكن إقامة الكتاتيب، فكانت تقام في زوايا المساجد، أو الغرف الملحقة بها، وفي الحوانيت، وأطراف الأسواق، بل وأحيانًا في ساحات الأحياء أو في الهواء الطلق بالقرى الصغيرة، خاصة في فصول الصيف. وكان الآباء يقومون بدور محوري في هذه المرحلة، إذ يقع على عاتقهم اختيار الوقت المناسب لإلحاق أبنائهم بالكتاتيب، واختيار المؤدّبين والمعلمين الموثوق بهم، مع متابعة أبنائهم وتشجيعهم على الاستمرار في التعلم.
اقتصر التعليم في الكتاتيب على تعليم القرآن الكريم، وحفظه، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، كما تأثرت نظم التعليم في صنغاي بنظيرتها في المغرب الأقصى، فاتبعت طريقتها في تحفيظ القرآن مع بعض الاختلاف في النطق، نتيجة تأثر النطق العربي بلهجات السكان المحليين.
ومن المظاهر اللافتة أيضًا، استخدام الألواح الخشبية في تدوين الدروس والآيات القرآنية، واتباع نظام دراسي يبدأ العطلة الأسبوعية من بعد ظهر الأربعاء وحتى عصر الجمعة وقد أدى انتشار الكتاتيب إلى حدوث نقلة نوعية في الحياة التعليمية والاجتماعية في صنغاي، وأسهم في ترسيخ التعليم الإسلامي في المجتمع، تنفيذًا لوصية الإسلام بطلب العلم.
يتبيّن من خلال ما سبق أن الكتاتيب كانت ركيزة أساسية في منظومة التعليم التقليدي داخل مملكة صنغاي، وأسهمت بدور فعال في نشر العلم والثقافة بين مختلف فئات المجتمع. فقد كانت الوسيلة الأولى التي يتلقى فيها الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، ويحفظون من خلالها كتاب الله تعالى، ويتعلّمون أصول دينهم وقيمهم الاجتماعية كما أن هذه الكتاتيب لم تكن مجرد مؤسسات تعليمية فحسب، بل كانت مراكز تربوية واجتماعية حافظت على هوية المجتمع الصنغاي، وأسهمت في إعداد الأفراد للمشاركة في الحياة العلمية والثقافية الواسعة التي ازدهرت بها المملكة. لذا، تُعد الكتاتيب شاهدًا حيًّا على ازدهار الحركة العلمية في صنغاي، ودليلًا على اهتمام هذه المملكة بنشر المعرفة والثقافة في إطار إسلامي أصيل.