شحاتة زكريا يكتب: زيارة تقرأ العالم من جديد.. القاهرة وموسكو بين الحاضر والاستراتيجيا

وسط عالم يعيد رسم خرائط النفوذ ويُعيد تعريف مفردات القوة جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا كعلامة فارقة تؤكد أن السياسة الخارجية المصرية تجاوزت منطق المحاور الضيقة إلى رحابة الرؤية الاستراتيجية المتعددة الأبعاد.
لم تكن الزيارة مجرد تلبية لدعوة رسمية أو مشاركة رمزية في احتفال بل كانت تجسيدا عمليا لمنهج مصري جديد يرى أن الدولة القوية لا تُحاصَر في مربع شرقي أو غربي، بل تتحرك بوعي واستقلال على رقعة المصالح المتشابكة متكئة على عمقها الحضاري وثقلها الجيوسياسي واستقلال قرارها الوطني. منذ توليه المسؤولية أرسى الرئيس السيسي قواعد جديدة للسياسة الخارجية المصرية، قوامها التوازن المتكافئ والندية والعقلانية. لم تعد القاهرة مضطرة للاختيار بين واشنطن أو موسكو.. بين بروكسل أو بكين. بل أصبحت قادرة على إقامة شراكات استراتيجية مع القوى الكبرى دون أن تتنازل عن استقلالها أو تُفرّط في ثوابتها. وفي إطار هذا التوجه تنامت العلاقات المصرية الروسية بصورة غير مسبوقة. مفاعل الضبعة النووي لم يعد مجرد مشروع للطاقة بل تحول إلى رمز للتعاون العلمي والتقني بين البلدين فيما تمثل المنطقة الصناعية الروسية بمحور قناة السويس أحد أبرز ملامح الشراكة الاقتصادية التي تعكس ثقة موسكو في بيئة الاستثمار المصرية وقدرتها على جذب كبرى الكيانات الدولية.التعاون بين القاهرة وموسكو لا يقتصر على البُعد الثنائي فقط بل يمتد ليشمل رؤى مشتركة حول عدد من القضايا الدولية والإقليمية، ويُجسّد نموذجا لعلاقات دولية تقوم على الاحترام المتبادل وتبادل المنافع دون وصاية أو ضغوط. لكن الأهم من كل ذلك أن هذه الزيارة تُعيد التأكيد على أن مصر تقف في المنتصف بين الأقطاب لا بمعنى الحياد السلبي بل بوصفها دولة تعرف متى تقترب ومتى تتحاور ومتى تضع الخطوط الحمراء دفاعا عن مصالحها وهويتها. روسيا كما أمريكا كما الصين كما الاتحاد الأوروبي جميعها أطراف تتعامل معها القاهرة بمنطق الندية والوضوح ، وبهدف واحد: تعظيم المصلحة الوطنية دون تفريط في السيادة أو انزلاق إلى صراعات لا تخدم الاستقرار. فى ظل عالم يموج بالأزمات ويشهد تحولات متسارعة في موازين القوى تبدو السياسة الخارجية المصرية أكثر رسوخا ووضوحا وأكثر قدرة على المناورة الذكية التي تحقق المكاسب وتحفظ الكرامة الوطنية. زيارة موسكو بكل رسائلها وتفاصيلها ليست مجرد محطة عابرة في جدول زيارات رئاسية بل خطوة مدروسة ضمن رؤية شاملة لبناء علاقات استراتيجية متوازنة، تُعزز من حضور مصر الدولي ، وتُرسخ مكانتها كقوة إقليمية مستقلة ومؤثرة. هكذا تُدار السياسة الخارجية حين تتقدم الدولة برؤية وتتحرك بثقة وتعرف جيدا أن العالم لا يحترم إلا من يحترم نفسه ولا يمنح التقدير إلا لمن يُحسن الوقوف بثبات وسط العواصف.