د. هويدا عزت تكتب: قصص من داخل المؤسسات.. حين يصبح الاحتفاظ بالموارد البشرية نوعًا من الحصار

ليست كل الحكايات المؤسسية تُقال في الاجتماعات أو تُكتب في التقارير؛ فبعضها يهمس به الصمت وتكشفه نظرات مُحبطة وهمسات تدور في أروقة المكاتب. من هذه الحكايات، قصة الموظف الذي يُجبر على البقاء في موقع لا يُرضي طموحه ولا يراعي ظروفه، فقط لأن مديره لا يريد “التفريط فيه”.
في مقال سابق، تناولتُ غياب الفرص البديلة كأحد الإشكاليات داخل المؤسسات. أما اليوم، فالمشكلة أعمق أن تكون الفرصة موجودة، ويعبر الموظف صراحة عن رغبته في الانتقال، لكنه يُقابل بالرفض، لا لسبب موضوعي، بل لقرار فردي يصدر عن المدير. في عالم العمل، لا يكفي أن تمتلك المهارة والطموح، بل يجب أن تحظى ببيئة داعمة تسمح لك بالتطور. ولكن، ماذا لو اصطدم هذا الطموح برغبة المدير في “الاحتفاظ بك”؟ لا بد من الاعتراف أن أحد أكثر التحديات إرباكًا في بيئات العمل هو منع الموظف من الانتقال إلى وظيفة أو قسم آخر داخل المؤسسة، رغم توافق ذلك مع أهدافه المهنية أو ظروفه الشخصية. هل حماية المؤسسة من تسرب الكفاءات تُبرر التضحية بمستقبل الموظف؟هنا لا تكمن المشكلة في الهيكل الوظيفي أو نقص الفرص، بل في أسلوب القيادة؛ حين يتحول المدير إلى عقبة مدفوعًا بالخوف أو الرغبة في السيطرة، فإن الأمر لا يعيق التنقل الوظيفي فقط، بل يضعف شعور الموظف بقيمته، ويهز ثقافة العدالة داخل المؤسسة.ورغم أن قرار منع الانتقال يبدو إداريًا في ظاهره، إلا أن تبعاته النفسية والتنظيمية عميقة. فمتى يتحول دعم المدير إلى قيد؟ ومتى تصبح الرغبة في “الاحتفاظ بالكفاءة” مبررًا لاحتكارها؟في العديد من المؤسسات، لا تقاس صعوبة بيئة العمل بكم المهام فحسب، بل بغياب المرونة والانغلاق أمام التغيير، وقد تكون أكثر الحالات تعقيدًا هي تلك التي يُحاصر فيها الموظف بموقع لا يُشبهه، ويُمنع من الانتقال إلى فرصة أخرى داخل المؤسسة لا لغياب البدائل، بل لأن مديره يرفض التخلي عنه.هذا الرفض ليس مجرد قرار إداري، بل يعكس أسلوب قيادة مُتسلط يقلل من أهمية الحوار ويُعيق التطور المهني. ووفقًا لدراسة نُشرت في Administrative Sciences، فإن المؤسسات التي تسود فيها هذه العقلية تشهد انخفاضًا في مشاركة الموظفين وارتفاعًا في معدلات نيتهم لترك المؤسسة، حتى لو بدأوا رحلتهم العملية بشعور قوي بالانتماء. وليس التحدي في توقف المسار المهني فحسب، بل في الأثر النفسي العميق. فقد أظهرت الدراسات أن بيئة العمل غير الصحية تزيد من التوتر، والاكتئاب، وصعوبة النوم؛ فالموظف الذي يُمنع من التقدير أو فرص التطور يشعر وكأنه مجبر على البقاء في مكان لا يرغب فيه، مما يؤثر سلبًا على أدائه وولائه.وفي دراسة حديثة أجرتها شركة “LHH”، أظهر 46% من الموظفين أن مديريهم يقاومون انتقالهم إلى وظائف أخرى داخل المؤسسة. هذا السلوك، المعروف بـ”الاحتكار الإداري للكفاءات”، لا يؤثر فقط على رضا الموظف، بل يُضعف أداءهم العام ويهز التزامهم تجاه المؤسسة.والنتيجة؟ حين يُقابل طلب الانتقال بالرفض المتكرر، يبدأ الموظف في البحث عن فرص خارجية. والأسوأ أن إجبار الموظف على البقاء في مكان لا يريده يفقده الحماس للتطور، ويشعره بالجمود، كما أشار بحث منشور على منصة”arXiv”، حيث أظهرت النتائج أن مثل هذه التصرفات تضعف روح التعاون والمرونة في المؤسسة.في المقابل، تظهر التجارب أن المؤسسات التي تدعم التنقل الداخلي تتمتع بمعدلات استبقاء أعلى، وشعور أعمق بالرضا الوظيفي. وهذا ما أكدته تقارير شركة”Gallup”، المتخصصة في تحليل بيئة العمل، حيث وجدت أن المؤسسات التي تتيح تنقلًا وظيفيًا مرنًا تحتفظ بما يصل إلى 70% من كفاءاتها، مقارنة بـ40% فقط في المؤسسات التي تقيده. الأمر لا يتعلق فقط برضا الموظف، بل ببناء ثقافة ديناميكية قادرة على تحفيز الابتكار وتوظيف الطاقات في أماكنها الأنسب، وتظهر تجارب الشركات الناجحة أن السياسات الواضحة والعادلة للتنقل الداخلي تُعزز الثقة بين الإدارة والموظفين، تلك السياسات لا تعني الفوضى، بل توازنًا ذكيًا بين مصلحة الفرد والمؤسسة. وبالطبع، ولا يمكن إنكار أن بعض المديرين يواجهون صعوبات حقيقية تجعلهم يرفضون انتقال الموظفين، مثل عدم وجود بدائل جاهزة أو الخوف من تأثير ذلك على سير العمل. لكن الإدارة الواعية تدرك أن تنمية الكفاءات لا تعني حبسها، بل إطلاق طاقاتها وتحفيزها للنمو، المدير المتوازن لا يُقاس بعدد من يحتفظ بهم، بل بعدد من أسهم في إعدادهم للقيادة. ولعل أحد الحلول العملية هو تبني سياسات انتقال داخلي دورية، مثل دورات انتقال نصف سنوية، تُراعى فيها الاحتياجات التشغيلية ويُشرك فيها المديرون في وضع خطط بديلة. هكذا تُحمى مصلحة المؤسسة دون التضحية بطموحات الأفراد. الاحتفاظ بالكفاءات هدف نبيل، لكنه حين يتحول إلى وسيلة للسيطرة، يصبح عبئًا يُثقل روح المؤسسة ويكسر طموحات الأفراد، المدير الحقيقي لا يُحاصر الطاقات، بل يطلقها؛ لا يحتكر المهارات، بل يزرعها في تربة جديدة لتنمو وتُثمر في أماكن أخرى داخل الكيان نفسه؛ فالمؤسسات لا تبنى على الكفاءات المحاصرة، بل على الكفاءات المزدهرة، وإن أرادت المؤسسة أن تحتفظ بقوتها، فعليها أولًا أن تحترم حق الفرد في النمو، لا أن تضعه في قفص “الاحتفاظ” وتسميه وفاءً. في النهاية، لا يتعلق الأمر بقرار إداري بحت، بل بنهج تنظيمي طويل المدى. المدير الناجح لا يُقاس بعدد الموظفين الذين يبقون تحت إدارته، بل بعدد المواهب التي ساهم في صقلها ودفعها للأمام، حين تتحول الإدارة إلى عائق أمام التقدم، فإن الخسارة لا تكون فردية فقط، بل مؤسسية أيضًا، فتمكين الموظف هو استثمار لا خسارة.فالاحتفاظ الحقيقي لا يكون بمن تمنعهم من الرحيل، بل بمن تمنحهم أسبابًا حقيقية للبقاء.