أسوة المؤثرين… وخيبة الأمل

في كل مجتمع، تلعب “القدوة” دورًا محوريًا في تشكيل وعي الأجيال وبناء طموحاتهم. فالقدوة ليست مجرد شخصية يُعجب بها الفرد، بل هي صورة ذهنية لما يمكن أن يكون عليه الإنسان وما يجب أن يسعى إليه. ومنذ عقود، كانت القدوة لدى معظم الشباب تتجسد في العالم، الطبيب، المبدع، والمفكر. أما اليوم، فقد حلّ المؤثرون – أو ما يُعرف بـ”الإنفلونسرز” – مكانهم، ليصبحوا المثال الأعلى، ليس بسبب ما أنجزوه، بل لما يملكونه من متابعين وتأثير على المنصات الرقمية.
لا يمكن إنكار أن العصر الرقمي غيّر طريقة تفكيرنا وتلقيّنا للمعلومة. وأمام سيل المحتوى اليومي، باتت الشهرة تُقاس بعدد “الإعجابات” و”المشاهدات”، لا بعمق الفكر أو قيمة الإنجاز. وهكذا وجد الشباب أنفسهم محاطين بمحتوى سريع وجذاب، يصوّر الحياة السهلة والنجاح السريع. فبدلًا من أن يسعوا ليكونوا مثل العالم أحمد زويل، باتوا يرغبون بأن يصبحوا مثل شخصية مشهورة تُشارك يومياتها على تيك توك أو إنستجرام. ومن أسباب هذا التحول غياب النماذج الملهمة في الإعلام التقليدي قلّما نرى تغطيات أو حوارات مع العلماء والمخترعين وروّاد الفكر، بينما تتصدر أخبار المؤثرين المشهد الإعلامي.. والمحتوى الترفيهي السريع الشباب بطبيعتهم ينجذبون للمحتوى الخفيف والمباشر، وهو ما يبرع فيه المؤثرون أكثر من العلماء أو المفكرين.. والفجوة بين الأجيال الخطاب العلمي والثقافي لم يُطوّر لغته بما يتماشى مع طريقة تفكير الجيل الجديد، فبقي بعيدًا عنهم.. ورغبة الشباب في الظهور والربح السريع وهو ما يجعلهم يرون أن طريق المؤثر أقصر وأكثر جذبًا من طريق الأكاديمي أو المهني. إن التحول في مفهوم القدوة لا يخلو من آثار سلبية. فهو يبدل القيم التي يُبنى عليها طموح الشباب: من المثابرة إلى الترف، ومن الفكر إلى الصورة. كما يؤدي أحيانًا إلى خيبة أمل حادة، عندما يصطدم الشاب بواقع مختلف عن “الحياة المثالية” التي يروّج لها المؤثرون. الحل لا يكون في مهاجمة المؤثرين أو شيطنتهم، بل في خلق توازن. يمكن للمؤثر أن يكون قدوة إذا كان محتواه هادفًا، أخلاقيًا، ويشجع على التطوير الذاتي. كما يجب أن تعمل المؤسسات التعليمية والثقافية على تقديم القدوة الفكرية والعلمية بطريقة عصرية، عبر المنصات الرقمية وبأساليب جذابة. مفهوم القدوة يتغير بتغير الزمن، لكن القيم التي تشكل جوهر الإنسان الناجح يجب ألا تتغير. آن الأوان لأن نستعيد المعنى الحقيقي للقدوة، لا بإلغاء المؤثر، بل بإعادة الاعتبار للمؤثر الحقيقي من يصنع فرقًا حقيقيًا في حياة الناس، علمًا، فكرًا، وأخلاقًا.