كنوز متحركة عبر الزمن: رحلة سيارات “سيما” تكشف آفاق جديدة في عالم الفن المصري

كنوز متحركة عبر الزمن: رحلة سيارات “سيما” تكشف آفاق جديدة في عالم الفن المصري

في قلب قرية ابو رواش بطريق مصر إسكندرية الصحراوي، حيث تتشابك حكايات الماضي مع إيقاع الحاضر، يتربع عالم فريد من نوعه، عالم يحتضن بين جنباته ذكريات سينمائية وتلفزيونية تجسدت على عجلات الزمن.

 إنه مملكة او جراج  “سيد سيما”، وابنه ايمن سيما الاسم الذي بات مرادفاً لأندر وأجمل السيارات الكلاسيكية والحناطير التي أضفت سحراً خاصاً على الشاشة المصرية لعقود مديدة حيث معقل السيارات التي ركبها نجوم ونجمات الفن رشدي اباظة وتوفيق الذقن ومريم فخر الدين والعندليب الاسمر عبد الحليم حافظ و كريم عبد العزيز واحمد أمين و غيرهم. وفي زيارتي إلى ورشته التي تشبه متحفاً حياً، استقبلني نجله “أيمن سيما”، الوريث الأمين لهذا الشغف والإرث الفني. أيمن، الذي قضى سنوات عمره بين هذه التحف المتحركة، يروي بحب وشغف قصة عائلته وعلاقتها الوطيدة بعالم الإبداع المصري لـ”بوابة روز اليوسف”. “بدأت القصة بحب خالص من والدي للسيارات القديمة”، هكذا بدا أيمن سيما حديثة وعيناه تلمعان واضاف . “لم يكن الأمر مجرد اقتناء، بل كان شغفاً بالبحث عن هذه السيارات المتهالكة وإعادة ترميمها وإحياء مجدها. مع مرور الوقت، اكتسب والدي سمعة طيبة كخبير في هذا المجال، وبدأ صناع الأفلام والمسلسلات يدركون قيمة هذه الكنوز التي يمتلكها.”يوسف شاهين.. اكتشف سيما كان للمخرج العالمي يوسف شاهين دور محوري في دخول “سيد سيما” عالم الفن من أوسع أبوابه. “حينما كان الأستاذ شاهين يعمل مع شركات إنتاج أجنبية لتصوير أفلام في مصر، كانوا يبحثون عن أنواع محددة من السيارات القديمة التي تتناسب مع الحقبة الزمنية للأحداث”، يتذكر أيمن. “سألوا في الوسط الفني، وأخبروهم أن هناك رجلاً يمتلك تشكيلة لا مثيل لها من هذه السيارات، وهو والدي. تواصلوا معه، ومن هنا بدأت مرحلة الاحتراف. أصبح والدي هو المورد الرئيسي لهذه السيارات للأعمال الفنية المختلفة، ويوسف شاهين هو من أطلق عليه لقب ‘سيد سيما’، وهو لقب يحمله والدي بكل فخر حتى اليوم.”منذ تلك اللحظة، انطلق “سيد سيما” في رحلة عطاء فني لا تتوقف، ليصبح شريكاً أساسياً في صناعة الصورة البصرية للكثير من الأعمال الخالدة. ومع ازدياد حجم العمل وتعدد المواقع، انضم إليه ابنه أيمن ليساعده في هذه المهمة الشاقة والممتعة في آن واحد. “تواجدي في مواقع التصوير أصبح ضرورة نظراً للجهد والوقت الذي يتطلبه العمل”، يوضح أيمن. “توزعت الأدوار بيننا، والدي يشرف على عمليات الصيانة الدقيقة وإعادة التأهيل للسيارات، بينما أتولى أنا مسؤولية توريدها والتنسيق مع فرق الإنتاج في مواقع التصوير المختلفة.”كنوز على عجلات.. :يحتفظ “سيد سيما” بمجموعة استثنائية من السيارات والحناطير التي تحمل بصمات الزمن وروائح الماضي. “لا يمكنني تحديد عددها بدقة، لكن أؤكد لك أنه لا يوجد أحد في مصر يمتلك هذا التنوع والكم من السيارات الكلاسيكية النادرة”، يقول أيمن بلهجة الواثق. “وما زلنا نبحث بشغف عن أي قطعة فريدة يمكن أن نضيفها إلى هذه المجموعة. لدينا سيارات تعتبر بمثابة قطع أثرية، ولا يمكن السماح بخروجها من مصر لما تحمله من قيمة تاريخية وفنية.” ويكشف أيمن عن بعض هذه الكنوز التي شاركت في صناعة تاريخ الفن المصري: “نمتلك حناطير ملكية تعود إلى حقبة بعيدة، تحديداً عام 1890، وسيارات يعود تاريخ إنتاجها إلى بدايات القرن العشرين، مثل سيارة من عام 1908. كما نفخر بامتلاك سيارات كانت ملكاً لنجوم وشخصيات بارزة في تاريخ مصر، منها سيارة الفنان الكوميدي الراحل عبدالسلام النابلسي ذات الثلاث عجلات، وسيارة الفنان الوسيم رشدي أباظة، وحتى السيارة الخاصة بالرئيس الراحل محمد أنور السادات، التي بذل والدي جهداً مضنياً لشرائها ولم تستخدم سوى مرة واحدة في فيلم ‘عمارة يعقوبيان’ تقديراً لقيمتها التاريخية.””النص”.. عودة إلى ثلاثينيات القرن الماضي: شهدت أروقة ورشة “سيد سيما” مؤخراً حركة دؤوبة قبل ان تستعد ً للمشاركة في مسلسل “النص” الذي  عرض ضمن دراما موسم شهر رمضان المعظم الماضي  وتدور أحداثه في ثلاثينيات القرن الماضي. “كان هذا العمل يمثل تحدياً خاصاً بالنسبة لنا”، يشرح أيمن. “فالأحداث  كانت تدور في فترة زمنية محددة  الثلاثينيات تتطلب سيارات يعود إنتاجها إلى تلك الحقبة أو ما قبلها. كان المطلوب توفير عدد كبير من سيارات الكلاسيك التي تتناسب مع هذه الفترة، وهو ما تطلب بحثاً دقيقاً وجهداً مضاعفاً.”نجح فريق “سيد سيما” في تلبية هذا التحدي الصعب، حيث تم تزويد المسلسل بأكثر من 20 سيارة كلاسيكية، من بينها سيارات جيب عسكرية تنتمي للجيش الإنجليزي الذي كان متواجداً في مصر خلال تلك الفترة، بالإضافة إلى عدد من الحناطير الأنيقة التي كانت جزءاً من المشهد في شوارع القاهرة آنذاك. “قمنا بتجهيز هذه السيارات على أكمل وجه، سواء من الناحية الميكانيكية أو من حيث الطلاء والمظهر العام، لتبدو وكأنها خرجت للتو من مصانع تلك الحقبة الزمنية”، . وعبر أيمن عن سعادته بالمشاركة في هذا العمل قائلاً: “الأجواء في موقع تصوير مسلسل ‘النص’ كانت رائعة، وكان هناك حرص شديد من جميع فريق العمل على أدق التفاصيل، من الملابس والإكسسوارات إلى السيارات، لتقديم عمل فني متكامل يعكس تلك الفترة الزمنية بأمانة ودقة.” كما وجه الشكر لفريق عمله الذي بذل جهوداً مضنية لتوفير كل السيارات المطلوبة في الوقت المحدد ووفقاً لرؤية المخرج حسام علي. طرائف ومواقف في عالم الفن: خلال مسيرتهم الطويلة في خدمة الفن، واجه “سيد سيما” وابنه العديد من المواقف التي لا تُنسى، بعضها طريف والآخر يحمل في طياته دروساً قيمة. يتذكر أيمن واقعة طريفة خلال تصوير مسلسل “سمارة” الذي تدور أحداثه في بداية القرن الماضي، حيث واجه الفنان أحمد وفيق صعوبة في قيادة سيارة كلاسيكية، وكاد يتسبب في حادث للفنانة غادة عبدالرازق، مما اضطر أيمن لتولي قيادة السيارة بنفسه في بعض المشاهد. كما يتذكر واقعة أخرى خلال تصوير فيلم “العيال هربت” والخلاف الذي نشب حول مصير سيارة “عزة” الكلاسيكية، وإصرار المخرج على إغراقها في مشهد درامي، والجهود المضنية التي بذلت لإصلاحها بعد ذلك.”كيرة والجن”.. :يظل فيلم “كيرة والجن” علامة فارقة في تعاون عائلة “سيما” مع صناعة السينما. “لقد زودنا الفيلم بحوالي 10 سيارات وحناطير تعود لفترة ما بعد عام 1919″، يشرح أيمن. “استغرق تجهيز هذه السيارات وقتاً طويلاً وجهداً مضاعفاً لتلبية رؤية المخرج المبدع مروان حامد وتحت إشراف مهندس الديكور القدير باسل حسام. كان المطلوب موديلات محددة تحتاج إلى صيانة دقيقة، ولحسن الحظ، استغرق تصوير الفيلم ثلاث سنوات، وهو ما منحنا الوقت الكافي لتنفيذ كل التفاصيل وحتى تدريب النجمين أحمد عز وسيد رجب على قيادة هذه السيارات القديمة التي تختلف كثيراً عن السيارات الحديثة.”يؤكد أيمن أن عملهم مرتبط بشكل وثيق بنوعية الأعمال الفنية المنتجة. “مع انخفاض إنتاج الأعمال التاريخية أو التي تدور أحداثها في الماضي، يقل الطلب على سياراتنا بشكل طبيعي”، يقول أيمن. “لكن شغفنا بهذا المجال وحرصنا على الحفاظ على هذا الإرث الفني يدفعنا للاستمرار وتقديم أفضل ما لدينا.”في ختام جولتي في عالم “سيد سيما”، أدركت أنني لم أتجول فقط بين سيارات عتيقة، بل بين صفحات حية من تاريخ الفن المصري. هذه السيارات ليست مجرد مقتنيات، بل هي شهود صامتون على إبداع الأجيال الماضية وحلقة وصل فريدة بين زمنين، يحافظ عليها بعشق وإخلاص عائلة “سيما”، لتظل تروي حكاياتها الساحرة على الشاشة جيلاً بعد جيل وما زال االاستعانة بسيارتهم التاريخية والاثرية والنادرة في الأعمال الفنية مستمر.