حق لا يُفقد

يحيي الفلسطينيون الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، في الخامس عشر من مايو.

هذا الحدث المفصلي الذي غيّر مجرى تاريخهم، حينما تم تهجير أكثر من 950 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم عام 1948، وتدمير أكثر من 500 بلدة فلسطينية على يد العصابات الصهيونية المسلحة، بدعم من الانتداب البريطاني، في عملية تطهير عرقي ممنهجة أسفرت عن مجازر مروعة مثل دير ياسين والطنطورةتأتي هذه الذكرى في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي بدأ قبل عام ونصف تقريبا ، موقعًا عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، معظمهم من الأطفال والنساء، في مشهد يعيد إلى الأذهان فصول النكبة الأولى، ويؤكد أن النكبة ليست حدثًا من الماضي، بل واقعًا مستمرًا.في عام 2023، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة في مقرها بنيويورك، بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في خطوة رمزية تعكس اعترافًا دوليًا متزايدًا بالرواية الفلسطينية. وفي عام 2024، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قرارًا بقانون يعتبر إنكار النكبة جريمة يعاقب عليها بالحبس، ويخصص يوم 15 مايو من كل عام لإحياء الذكرى وتنظيم فعاليات حق العودة، في محاولة لحماية الذاكرة الوطنية من محاولات الطمس والتزييف تتوزع اليوم أكثر من 5.9 مليون لاجئ فلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان وسوريا، يعيشون في 58 مخيمًا رسميًا، وفقًا لإحصاءات وكالة الأونروا.ورغم مرور 77 عامًا على النكبة، يواصل الفلسطينيون تمسكهم بحق العودة، ويحيون الذكرى سنويًا بمسيرات وفعاليات تؤكد على أن الجرح ما زال نازفًا، وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم.في هذه الذكرى، تتجدد الدعوة للمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، والعمل على إنهاء الاحتلال، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير.والواقع أن نكبة الفلسطينيين لم تبدأ في ذلك اليوم فقط، ولم يكن ذلك التاريخ إلا اليوم الأكثر دموية وهجرة للفلسطينيين من أرضهم، وانتقالهم من مأساة إلى أخرى وبداية “القضية الفلسطينية”. بوعد عد بلفور والذي بدأت َمعه المعاناة، حيث أصدرت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها وعدا ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر عام 1917 موجهة من وزير خارجية المملكة المتحدة “آرثر بلفور” إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز وجهاء المجتمع اليهودي البريطاني، والذي ينظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.ومثلت الكلمات الأولى في نص الوعد، أول تعبير عام عن دعم قوة سياسية كبيرة للصهيونية الذي جاءت صياغته التالي:”تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.مصطلح “وطن قومي” لم يكن له أي سابقة في القانون الدولي، وقد أُورد المصطلح غامضا عمدا دون الإشارة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. كما لم يتم تحديد حدود فلسطين المعنية، وقد أكدت الحكومة البريطانية أن عبارة “في فلسطين” تشير إلى أن الوطني القومي اليهودي المشار إليه لم يقصد أن يغطي كل فلسطين. كان لهذا الوعد آثار طويلة الأمد.. فقد زاد من الدعم الشعبي للصهيونية في أوساط المجتمعات اليهودية في أنحاء العالم، وكان أوضح تعبير عن تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين حيث طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وإيرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي الحركة. ورغم أن الرسالة لا تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة دولة لليهود في فلسطين، لكنها أدت دورا أساسيا في اقامة دولة إسرائيل بعد 31 عاما من تاريخ الرسالة، أي عام 1948.كما ساهمت الرسالة في تشجيع يهود القارة الأوروبية على الهجرة إلى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعودا للتيارات القومية المعادية للسامية.ومنذ ذلك الوعد المشؤوم، يعاني الشعب الفلسطيني ويلات العدوان الإسرائيلي الغاشم، ودفع آلاف الشهداء الفلسطينيين، حياتهم ثمنا لأطماع اليهود في تهجير أصحاب الأرض وإبادتهم، وإنهاء القضية الفلسطينية والاستيلاء على الأرض، وفقا للخطة التي وضعتها حكومة الاحتلال، ضمن مخطط “إسرائيل الكبرى”، وحتى الآن صمود الشعب الفلسطيني، يقف عائقا أمام تنفيذ المخطط الصهيوني. وبعد صدور وعد بلفور نزح آلاف اليهود المهاجرين إلى المنطقة (فلسطين تحت الانتداب) هربا من الاضطهاد المتزايد، لا سيما في دول أوروبا الشرقية.ومع تسارع وتيرة هجرة اليهود، وقعت مواجهات عنيفة بين اليهود والفلسطينيين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.. ومع رفض الفلسطينيون فكرة منح وطن لليهود على أرضهم نشبت الكثير من أعمال الشغب.وشجع اندلاع الحربين العالمية الأولى والثانية على هجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين. ونشأت مجموعات يهودية مسلحة ساعية إلى إقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين .. وليبدأ التاريخ من تلك اللحظة تسجيل أهوال ومجازر بحق سكان فلسطين على يد المحتل في “دير ياسين 1948- مخيم البريج 1953 – نحالين 1954- مذبحتي غزة الأولى والثانية 1955.. قانا”، ولا تزال صفحات التاريخ مفتوحة.وفي الخامس من يونيو 1967، اغتصب الاحتلال الإسرائيلي ما تبقى من فلسطين التاريخية (القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة)، ومعها هضبة الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء المصرية، فيما عرف بـ”حرب الأيام الستة”. وتمر الأعوام وخلال عام 1982 شهد مخيما صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان أعمال قتل جماعية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، استمرت ثلاثة أيام 16 و17 و18 سبتمبر وراح ضحيتها مئات الشهداء، وتمثل مجزرة صبرا وشاتيلا واحدة من أبشع المجازر التي شكلت صدمة جماعية. وفي الثامن من ديسمبر 1987 انطلقت شرارة انتفاضة الحجارة التي استشهد فيها 1555 فلسطينيا، و”انتفاضة الحجارة” أو “الانتفاضة الأولى” أو انتفاضة 1987 وكلها مسميات رديفة للانتفاضة الفلسطينية الشاملة التي امتدت لسنوات، متخذة من الحجارة سلاحا لمواجهة مركبات وعتاد جيش الاحتلال والمستوطنين. واندلعت انتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الثانية، في 28 سبتمبر 2000 وتوقفت فعليا في 8 فبراير 2005 وتميزت هذه الانتفاضة مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات المسلحة وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، واستشهد فيها حوالي 4412 فلسطينيا وسقط فيها 48322 جريحا. ومرت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة خلالها بعدة اجتياحات إسرائيلية منها عملية الدرع الواقي، وكانت شرارة اندلاعها اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون المسجد الأقصى بحماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة، وبموافقة من رئيس الوزراء حينها إيهود باراك، الأمر الذي دفع جموع المصلين إلى التجمهر ومحاولة التصدي له، فكان من نتائجه اندلاع أول مواجهات في هذه الانتفاضة. ويعتبر الطفل الفلسطيني محمد الدرة رمزا للانتفاضة الثانية فبعد يومين من اقتحام المسجد الأقصى، أظهر شريط فيديو التقطه مراسل قناة تلفزيونية فرنسية في 30 سبتمبر 2000، مشاهد إعدام للطفل (11 عاما) الذي كان يحتمي إلى جوار أبيه ببرميل إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزة. ومن أبرز الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ حصاره، في 27 ديسمبر 2008، بدأت إسرائيل حربا على قطاع غزة أطلقت عليها اسم عملية “الرصاص المصبوب” وردت عليها المقاومة الفلسطينية في القطاع بعملية سمتها معركة “الفرقان”. واستمر العدوان الإسرائيلي 23 يوما، حيث توقف في 18 يناير 2009، واستخدم فيه الاحتلال أسلحة محرمة دولية مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، وأطلق أكثر من ألف طن من المتفجرات. أسفرت هذه الحرب عن أكثر من 1430 شهيدا فلسطينيا، منهم أكثر من 400 طفل و240 امرأة و134 شرطيا، إضافة إلى أكثر من 5400 جريح ودمرت أكثر من 10 آلاف منزل دمارا كليا أو جزئيا. وفي السابع من يوليو 2014 أطلقت إسرائيل عملية “الجرف الصامد” ردت عليها المقاومة بمعركة العصف المأكول، واستمرت المواجهة 51 يوما، شن خلالها جيش الاحتلال أكثر من 60 ألف غارة على القطاع وأسفرت هذه الحرب عن 2322 شهيدا و11 ألف جريح، وارتكبت إسرائيل مجازر بحق 144 عائلة، استشهد من كل واحدة منها 3 أفراد على الأقل. وفي فجر يوم السبت 7 أكتوبر 2023 ردت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على انتهاكات الاحتلال المستمرة في القدس المحتلة بعملية موسعة حملت اسم “طوفان الأقصى” سعت من خلالها لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والأسرى في سجون الاحتلال.وفي خرق كامل للقوانين والأعراف الدولية شن جيش الاحتلال حملة عسكرية ضد السكان المدنيين في كامل قطاع غزة أسقطت آلاف الشهداء والجرحى معظمهم من النساء والأطفال.

وسوم: