د. حسام الإمام يكتب: بالأمس كنت في العشرين من عمري

نعم أمس كان عمره 20!
ماذا حدث وكيف أصبح هذا الشيخ الذي يطل عليه في المرآة، يكاد يصلب طوله.. لا يدري! كيف مر هذا العمر ومتى وفي أي شيء انقضت أيامه ولياليه.. لا يدري؟!من أين أتى هذا الشيخ الكبير المسن؟ كيف وصل هذا الشيب إلى رأسه وانتشر فيها انتشار النار في الهشيم؟! وأين ذهبت أسنانه؟ وما تلك العصا الخشبية الغليظة التي يتشبث بها وكأنها أحد أبنائه لا يستطيع الاستغناء عنه؟! أليس هو ذلك الفتى الذي كان يجلس بالأمس في أرقى صالونات الحلاقة ليحصل على أحدث قصات الشعر؟ أليس هو من كان لا يحلو له فتح زجاجات المياه الغازية إلا بأسنانه، وكأنه يهدد كل من تسول له نفسه مضايقته أن يكون مصيره نفس مصير غطاء الزجاجة الذي نهشه بأسنانه الفتاكة! ماذا فعل به إذن هؤلاء الملاعين؟!لا بد أنها خدعة أو “هزار بايخ” كما تعودوا أن يفعلوا. لكنهم يعلمون جيدًا ردة فعله وانتقامه.انتقام! أي انتقام؟ كل ما حدث أنه استيقظ صباحًا وهو لا يقوى على مغادرة سريره وأنه.. أي هذا الشيخ.. صاح حينها بأعلى صوته يستجدى المساعدة ممن حوله ليناولوه بعض الماء! وكلما تكرر طلبه يرى بعضهم ينظر إليه بملل وحيرة وتساؤل: لماذا تمسكه بالحياة ولم يعد لديه أي سبب للبقاء! لقد أنهى مهمته تمامًا فلمَ لا يغادرها مشكورًا؟ لمَ لا يريح ويستريح؟ نعم يقرؤها في أعينهم واضحة بلا خجل حتى ولو استحيت عن نطقها ألسنتهم. رغم ذلك فالبعض الآخر يساعده على قدر استطاعته بعد أن قلصت الحياة قدراته على المساعدة. العمل والأولاد والمشاغل.. لكنهم ما زالوا يحملون في القلب ذكرى له وهو يجري ليل نهار ليأتي لهم بكل ما يحبون، نعم ما زالوا يتذكرون، لحسن حظه أنهم ما زالوا يتذكرون. لم يتصور يومًا أن يكون على هذا الحال، هل يمكن لهذا الشاب الجامح الذي لم يكف عن الجري ليل نهار أن يقف هكذا يكاد يفتح عينيه ليرى خطوات قليلة أمامه، تظنه ينظر إليك وهو لا يراك في الأساس! لا مستحيل. هل يمكن أن تتحول حياته إلى مجرد سؤال ملح كلما ذكروا أمامه اسم أحد أصدقائه، سؤال يغلفه قلق وحيرة وحزن، هل ما زال صديقي حيًا؟ هل دار الزمن دورته ووصل به إلى تلك النقطة.. حيث اللاعودة؟لحظة عجيبة لا يمكن أن تخطر على بال أحد، تعودت أن تأتي فجأة لتباغت صاحبها على غير استحياء ليكتشف مرور ثلاثين أو أربعين عامًا من عمره. قالوا له إن هؤلاء الصغار هم أحفاده! كانوا يلتصقون به كلما زاره أصدقاؤه للاطمئنان على صحته، وكان بعد انصراف الأصدقاء يجلس إلى أحفاده يحدثهم ضاحكًا: لا تتعجبوا وأنتم ترون هؤلاء الشيوخ من حولكم ينادون بعضهم البعض “يا شباب”. لا تقلقوا فلن تزعجني ابتسامتكم التي تخفون خلفها سخريتكم من هؤلاء الشيوخ فاقدي الوعي الذين يتصورون أنهم ما زالوا شبابًا، لكن أرجوكم ألا تفرطوا في التعجب من هذا الأمل الذي ترونه على وجوههم، لن أرهقكم كثيرًا بتفسير هذا الأمر، لأن الأيام سوف تقوم بتلك المهمة. فقط أريد أن تتعلموا مما ترون، تعلموا– حين تأتـي تلك اللحظة وترون أنفسكم وقد أصبحتم فجأة شيوخًا مثلهم– تعلموا أن تخرجوا إلى ما وراء الواقع الذي تعيشونه، لتروه كما تحبون أن تروه، تظنوننا نحاول أن نخدع أنفسنا، نعم بالضبط هذا هو ما يحدث، حسنًا ولم لا؟ كانت نقطة ضعفه عندما يقابل زميلًا قديمًا ويبدأ في حديثه معه عن أيام الشباب وذكرياتها، ليفاجئه صاحبه بالحديث عن اقتراب خروجه إلى المعاش، أو زواج أبنائه وهجرتهم للخارج أو يخبره بوفاة زوجته وحيرته في تدبير شؤون أولاده، كان يستمع إليه وهو لا يرى أمامه إلا زميله الذي تركه آخر مرة أمام باب المدرسة وقد التحق كل منهم بكلية مختلفة، ففرقتهم الأيام ولم يلتقيا إلا اليوم، يوم خروجه على المعاش! كان يصيبه الجنون عندما يسأل عن أحد الزملاء ويخبرونه أنه مات منذ عام أو عشرة أو عشرين عامًا. عندما تكون آخر ذكراه مع هذا الصديق انتهت وهم في ريعان شبابهم، عندما افترقوا على أمل اللقاء لكن كان للأيام رأي آخر. كانت سلوته الوحيدة أنه يراهم وسوف يظل يراهم كما رآهم آخر مرة، شبابًا صغارًا لم يعلوهم الشيب، لم تتساقط أطرافهم وأسنانهم بعد. ليس للعصا الخشبية سلطان عليهم كما فعلت به. مدير المركز الإقليمي لأخلاقيات المياه[email protected]