شحاتة زكريا: مصر وفلسطين.. توحد المصير وإرادة التصدي

شحاتة زكريا: مصر وفلسطين.. توحد المصير وإرادة التصدي

في خضم مشهد إقليمي متوتر تبرز مصر كصوت عاقل وفاعل، يحمل على عاتقه إرثا من الالتزام تجاه القضية الفلسطينية لا بوصفها مجرد ملف دبلوماسي، بل باعتبارها امتدادا طبيعيا لأمنها القومي ومكانتها التاريخية. لم تكن علاقة القاهرة بالقضية علاقة تعاطف طارئ، بل علاقة تَشكّلت عبر تضحيات وتقاطعات سياسية ومعارك من ميادين القتال إلى قاعات التفاوض وأروقة المحاكم الدولية.

إن أكثر ما يميز الموقف المصري حاليا هو هذا المزج الناضج بين الثوابت التاريخية والتحرك الذكي في ساحات السياسة والقانون. مصر لا تكتفي بإعلان الدعم ولا تركن إلى خطاب عاطفي، بل تتبنى استراتيجية فعّالة قوامها التحرك متعدد الجبهات: دعم إنساني غير مشروط دبلوماسية نشطة ومواجهة قانونية متقدمة مع الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية. ولعل أهم ما في هذا التوجه المصري الجديد هو استدعاء القانون الدولي كوسيلة مواجهة في لحظة يبدو فيها السلاح وحده عاجزا عن كبح تغول الاحتلال. فمرافعة مصر أمام محكمة العدل الدولية الأخيرة لم تكن مجرد ورقة سياسية بل كانت إعلانا واضحا أن زمن الصمت قد انتهى، وأن الكلمة المدروسة والموقف القوي قد يوازيان الرصاصة في معركة الوعي.لكن يجب ألا نغفل أن هذه المعركة القانونية لا تنفصل عن معركة إنسانية تخوضها مصر على الأرض، حيث بات معبر رفح شاهدا يوميا على مسؤولية أخلاقية تؤديها القاهرة بإصرار. فبينما تتلكأ عواصم العالم في إرسال المساعدات كانت مصر — عبر الهلال الأحمر والتحالف الأهلي — تقدم الغذاء والدواء والكساء، وتؤمن الممرات الآمنة للجرحى والمرضى. إنها ليست مساعدات بقدر ما هي رسالة: مصر لا تترك أشقاءها في العراء. وبينما يُعد الداخل الفلسطيني ساحة معقدة تعج بالانقسامات كانت مصر دائما الراعي الأول لمبادرات المصالحة. من إعلان القاهرة في 2005 إلى جولات الحوار التي لا تنقطع تواصل مصر إصرارها على لمّ الشمل الفلسطيني، لأن القاهرة تعرف أن لا دولة بلا وحدة ولا مقاومة فعالة بلا جبهة داخلية متماسكة.بعض الأصوات تتساءل عن حدود الدور المصري، أو تتهمه أحيانا بالحياد متغافلين عن أن القاهرة تسير في حقل ألغام: توازن دقيق بين الحفاظ على معاهدة السلام واستمرار العلاقات الإقليمية والدولية، واحتواء التهديدات في سيناء وفي الوقت نفسه حمل راية القضية الفلسطينية. هذا ليس حيادا بل عقل بارد في لحظة ملتهبة.إن القراءة الدقيقة للمشهد تثبت أن القاهرة لا تسعى إلى تصدر المشهد لمجرد الحضور بل لأنها الوحيدة القادرة على التعامل مع كل أطراف النزاع دون ابتزاز أو حسابات ضيقة. وهذا ما جعل منها شريكا يُسمع له في واشنطن وتُحسب كلمته في تل أبيب، وتُطلب وساطته في غزة.إن فلسطين ليست عبئا على مصر بل هي جزء من ذاكرتها السياسية وهويتها الإقليمية. ولهذا ستبقى مصر في طليعة من يرفض التهجير، ويواجه الحصار، ويُدين الاستيطان، ويقاتل بالكلمة والموقف والضمير. فهذه معركة وجود لا معركة حدود.