منال الشرقاوي تكتب: تيك توك أم الأفلام القصيرة.. من يستطيع جذبت مشاعرك في دقيقة؟

منال الشرقاوي تكتب: تيك توك أم الأفلام القصيرة.. من يستطيع جذبت مشاعرك في دقيقة؟

قبل عشر سنوات، كنت أظن أن أقصر فيلم يمكن أن يؤثر فيَّ، يجب أن يعرض على شاشة سينما مظلمة، مصحوباً بنظرة فلسفية وتعليق من صديق مثقف.. ثم جاء تيك توك.

فجأة، وجدت أنني أبكي على مشهد مدته ثلاثون ثانية. وأضحك على موت بطولي بفلتر كرتوني. لم أكن أعلم أن الهاتف الذي في يدي يحمل بداخله مئات الأفلام المصغرة، بعضها أكثر دهشة من أفلام أنفقوا عليها ملايين الدولارات.لكن السؤال ظل يطاردني: هل هذه مقاطع ترفيه؟ أم سينما؟ هل هذه ومضات فنية؟ أم ومضات عصبية لجيل لا يحتمل الصبر؟قبل أن أخوض في هذا الجنون المعاصر، يجب أن أقول إنني أحب أفلام الومضة. أحبها لأنها مثل النكتة الجيدة أو الكدمة السريعة… لا تحتاج إلى وقت لتستوعبها، لكنك تحتاج وقتاً لتنسى أثرها.كنت أتابع مهرجانات للأفلام التي لا تتجاوز دقيقتين، وأندهش، كيف يمكن أن يحكي أحدهم قصة حب، أو خيانة، أو نهاية العالم… في 90 ثانية؟ثم ظهر تيك توك. وظهر معه نوع جديد من السرد، سريع، ضاحك، ساخر، مُبكٍ أحياناً. فتيات يمثلن، شباب يكتبون سيناريوهات على الورق المقوى، ممثلون هواة ومونتاج يُنجز على الهاتف في دقائق.كل شيء صار سريعاً… لدرجة أنني بدأت أسأل نفسي:هل هذه الأفلام ومضات؟ أم أننا فقط نستهلك لقطات مبعثرة ونقنع أنفسنا أنها فن؟على تيك توك، مثلاً، تُنشر مقاطع قصيرة لا تتجاوز الدقيقة، لكنها تُبنى بدقة درامية: بداية، تصاعد، نهاية، وأحيانًا “بلوت تويست” مفاجئ يجعل المشاهد يعيد التفكير في القصة كلها. وهناك أيضًا منشئو محتوى يستخدمون الحوار الداخلي والمؤثرات الصوتية البسيطة لصنع لحظات عاطفية تُضاهي في تأثيرها أفلاماً تُعرض على الشاشات الكبرى.في الأصل، أفلام الومضة تنتمي إلى عائلة السرد المركز. لا وقت للتشويق البطيء ولا للسفسطة. هناك فكرة واحدة، واضحة، تضرب كلكمة على وجهك أو تسحبك من ياقة قميصك في لحظة. إنها لا تقول “شاهدني”، لكنها تقول “فكر بي”.الفيلم الذي يُظهر لك رجلاً يفتح ثلاجة فتخرج منها امرأة ميتة، هذا ليس مشهداً عبثياً، وإنما “رمزاً” ضاغطاً على فكرة كبرى.  وللتذكير بأن أفلام الومضة ليست وليدة العصر الرقمي، يكفي أن نشير إلى فيلم مثل “The Man Who Planted Trees” فيلم رسم متحركة فرنسي قديم، قصير في مدته (نحو 30 دقيقة)، عميق في روحه.يحكي قصة رجل بسيط يزرع الأشجار في منطقة قاحلة لعقود، حتى تتحول إلى جنة خضراء، دون أن ينتظر تصفيقًا أو اعترافًا.رغم صمته الطويل وبساطته البصرية، يترك الفيلم أثراً بالغًا عن الأمل والإصرار والصبر.هذه هي الومضة في جوهرها، الفكرة التي تنمو داخلك بعد أن تُعرض أمامك بهدوء.  ما يحدث على تيك توك مختلف. المنصة لم تُصمم خصيصاً للفن، وإنما لتجعلنا نبقى فيها أطول وقت ممكن. وهذا بحد ذاته نوع من الإدمان السلوكي الذي يرتبط بطريقة تصميم التطبيقات الحديثة.ورغم ذلك، استطاع بعض المبدعين تحويل هذا القيد إلى مساحة للتعبير السريع والمكثف.كل مقطع يريد منك شيئاً، ضحكة، دمعة، متابعة، لايك، تعليق.وأغلب “المشاهد” فيه تخدم لحظة على حساب فكرة.لكن هل هذا سيئ بالضرورة؟لا أعلم. لكن ما أعرفه جيدًا، أن الفن لا يُقاس فقط بالبنية، ولكن بالأثر.ولو كان فيلمك على تيك توك قد جعلني أفكر، أو أرتبك، أو أتألم، إذن ربما أنت مخرج، حتى لو كنت تصور من على كنبة منزلك.لكن السؤال هنا، متى يصبح مقطع التيك توك “فيلم ومضة” فعلاً؟هناك فارق واضح -لا في عدد الثواني-، وإنما في أهداف الصانع.هل صاحب الفيديو أراد أن يحكي حكاية؟ هل بنى لحظة؟ هل استخدم الضوء والظل، الصوت والسكوت، الحركة والسكون؟إن كانت الإجابة نعم -فربما- صنع فيلماً.أما إن كانت مجرد مزحة مكررة، أو مشهداً مقتطعاً بلا بداية ولا نهاية، فهو فقط “محتوى”.وهو جيد على طريقته. لكنه ليس ومضة.خلاصة القصة، تيك توك لم يقتل فن أفلام الومضة. لكن جعله أكثر فوضى، وأكثر اتساعاً. صار كل من يملك هاتفاً قادراً على أن يجرب. بعضهم يسقط في السطحية، والبعض الآخر -وهذا هو المهم -، يضيء ومضة حقيقية وسط هذا الظلام…في النهاية، لا يتعلق الأمر بتأييد تيك توك أو الهجوم عليه، ولا بتقديس أفلام المهرجانات أو تحقير “محتوى” الهاتف المحمول.ما نحاول قوله ببساطة هو أن الفن لم يعُد يُقاس بحجم الكاميرا، ولا بمكان العرض، ولا بعدد الدقائق. إنما يُقاس بصدق الرغبة في الحكي، وباللحظة التي تلمسك من الداخل، فتغيرك ولو قليلاً.نحن، كمشاهدين، لسنا مطالبين بالحكم على كل ما يُعرض، لكننا مطالبون بشيء واحد: ألا نُطفئ أعيننا وسط هذا السيل الجارف من المقاطع.أن ننتبه لتلك الومضة النادرة… التي لا تُرى مرتين.ومضة تقول شيئاً مختلفاً. ومضة تستحق أن تُسمى فنًا.