مصر العزيزة.. في منطقة غير مستقرة

مصر العزيزة.. في منطقة غير مستقرة

يكُتب التاريخ بمداد من عدل ووضوح. 

لا يخدع التاريخ أحدًا، ولا يمكن لأحد أن يخادع التاريخ.
صفحات التاريخ بائنة ظاهرة وجلية.. وبعضها نور وبعضها الآخر نار. 
لا يغتاب التاريخ أحدًا، ولا يضع نفسه فى خصومة مع أحد، لكن الأحداث والمسالك هى التي تضع نفسها محل الاعتبار أو غيره فى مواقف التاريخ، فى مراحله المتعددة من هذا وذاك.
تاريخ الشعوب مراحل، ودرجات. 
لا ينحنى التاريخ، إنما هو بلا جدال يسجل انحناءات بعضهم هنا، وتجنبات بعضهم هناك.
التاريخ ميزان، وفى ميزان التاريخ، تبقى معادلات الرشد واليقين والإيمان معايير وحيدة لبدايات العناوين فى صفحاته البيضاء.
الزمن حكمٌ عدل. والزمان قاضى القضاة. 
لذلك تحمل ذاكرة الشعوب دائمًا، ما وضعه الساسة فى سلال الزمن، إن كان خيرًا فخير، وإن كان غير ذلك، فهو غير ذلك. 
مصر علامة أصيلة من علامات المنطقة والإقليم. هذا ما قاله التاريخ، وهذا ما هو مكتوب فى صفحاته. 
ظلت لمصر الرايات والقيادة، منذ عصورٍ أولى، بلغت فيها حدود سطوة الدولة مبلغًا، أقر قوانين، ورسخ تشريعات، وأفضى على ساحات السياسة، كما على ساحات الاجتماع، رؤى لم يحدث أن سجلها التاريخ مغيبة، ولا حدث أن سطرها التاريخ معتدية. 
أعلنت مصر الحضارة، وقتما كان آخرون يبحثون عن هوية. أقرت حدودًا، وحافظت على تراب، بينما كان آخرون ما زالوا فى مرحلة البحث عن هوية، وما زالوا فى مراحل الجدل على خطوط فاصلة بين دفاتر ضائعة، ومواريث تاريخ، كانت لا تزال فى مراحلها الأولى وفى بواكيرها. 
رسمت مصر، باستدامة، وبإصرار، على صفحات التاريخ سياسات الرشد والتواضع الجميل، رغم اعتبارات القوة والقدرة. 
حملت مصر أيضًا، باعتبارات الجغرافيا، وباعتبارات المسؤولية الحضارية، مشكلات الآخرين، ورفعت على ظهرها حقوقهم وطموحاتهم، ودافعت ودفعت من دماء أبنائها.. ثمن الواجب والقرار.
لم يتغير القرار المصري منذ عصور التاريخ الأولى. 
وفى العصر الحديث، ظلت مصر على صورة أصيلة أصلية تأسست مع تأسس الدولة، فى أول سوابق لبناء الدولة. 
أكثر من مر بالأزمات فى المنطقة كانت مصر. وأكثر من تحملت، كانت مصر أيضًا. 
استقر على أرض مصر ألوفٌ وملايين من وافدين من أقطار العرب على طول التاريخ.. واحتملت. 
حملت مصر فى عصور فائتة ما لم يكن لها أن تتحمله.. واحتملت. 
دخلت مصر حروبًا لأجل المبادئ ولأجل النسيج العربى ولأجل الحقوق ولأجل الشعوب، وانتصرت، وحققت، وتحققت، ورفعت الرايات فوق جباه المصريين، وجباه الآخرين أيضًا. 
كانت مصر على طول الخط فى المواجهة، وكانت على طول الطريق الواجهة. 
لم يحدث أن حادت عن موقف، ولم يحدث أن انحنت، حتى مع ثقل الحمول، وتمادى عشم الآخرين فى الآمال. 
فى مراحل التاريخ، تبقى المرحلة الحالية الأهم والأصعب. 
لم تحد مصر عن سياسات الرشد والشرف وسط تلاطم قضايا إقليم، لم يحدث أن شهد التهابًا كما هو الآن، ولم يحدث أن تهددت الخرائط، كما تهددت تلك الساعة. 
تمسكت مصر بالشرف، ورفعت راية الالتزام بالتعاطى وفق الحق العادل، والعدل الحق، مهما كانت النتائج، وبصرف النظر عن المآلات. 
لو باعت مصر، سوف يسقط الجميع. ولو انحنت فإن الرياح العاتية، سوف تقتلع الأشجار فى الواحات وسوف تحرض الرمال على الفوضى فى الصحراء. 
لكن التاريخ أوجب على مصر عدم الانحناء، وعلق فى رقبتها آيات مكتوبة، تعد بألا تسقط، وتقسم بألا يؤول أمرها، مهما كان، إلى غيرها. 
وقفت مصر فى مراحل مختلفة وحدها.. وتحملت. انتصبت مرارًا فى وجه عواصف إقليمية بعضها بارد والآخر شديد السخونة، ثم بعدها نفضت عن نفسها تراب الحر، وبرودة الجو، وأكملت منتصبة تحوز القرار.. وتحوز الرؤية وحرية الاتجاه. 
وقفت مصر فى المواجهة، حاملة رسائل الآخرين، ومتطلباتهم ودفعت، بسياسة الشرف، إلى احتمال مساعيهم، والعمل على أنصبة العدل، وفق ما أقره الشرع الدولى، والقانون الإنسانى، ووفق ما تمليه المسؤولية التاريخية لبلد، ظل وسيظل رمانة ميزان حتى فى ظل معادلات لم يُجْرِها الزمن من قبل. 
لا تعنى الصلابة المصرية، أن مصر لا تُلقى بالًا للتعاون أو التآلف أو حتى للتآخى مع آخرين. 
بالعكس، لأن مصر فى أحلك فترات الصعوبة فى الإقليم، ظلت تمد يدًا برغبات التعاون، وأخرى بمشاريع الحقوق.
لم تُغَلّب مصر أبدًا رغبات السير للأمام، على حقوق آخرين، أو على مقتضيات الواجب. 
لم يحدث أن غضت مصر الطرف عن مشروعية أحلام الشعوب، لصالح مشروعية أحلامها، أو احتياجاتها، حتى لو كانت الأزمات لديها محتكمة، وحتى لو كانت الظروف لديها على المحك. 
للإنصاف ليس عدلًا أن تظل مصر وحدها، حتى وإن كان هذا قدرًا وقضاءً. 
ليس عدلًا، أن تظل مصر صامدة وحدها فى التصدى لقوى أخرى، حاولت الالتفاف من أبواب خلفية خوفًا من المواجهة. 
ليس عدلًا أن تقطع مصر، وحدها محاولات فى الشرق تسعى إلى تغيير الخرائط بدعوى التعاون، أو محاولات فى الغرب بدعوى اقتسام الخيرات. 
ليس عدلًا أن تقف مصر وحدها فى مواجهة، بعض من تعمد الخلط فى الرايات فى الجنوب، فأقر الحقوق فى المجالس العامة، ثم عاد من تحت الترابيزات إلى تبديل الأوراق، وإعادة تفسير الوقائع، وأعاد تقسيم الحقوق على كيفه وعلى هواه. 
تتحمل مصر تحدياتها، كما تتحمل مسؤولياتها. ليس عدلًا أن يأتى زمانٌ يلوك فيه البعض كلامًا «كاللبان» يعمد إلى تداول التحديات قبل المسؤوليات. وليس عدلًا أن يتداول بعضهم حديثًا عن الأزمات يغفل فيه المواقف الواضحة، ويغض فيه النظر عن الصلابة المستدامة. 
تعرف مصر الحلول، وتعرف منطلقات المشكلات، وبدايات خيوط الحلحلة. صحيح تفرض مصر ما يجب أن تفرضه وفق مقتضياتها بخطوط حمراء، لكن للإنصاف مرة أخرى، لا يجوز أن تبقى مصر وحدها فى ميدان.. تناثرت فيه الأهواء والأوهام ذات اليمين وذات الشمال.
القضية الفلسطينية مثال. 
الرؤية المصرية فى القضية الفلسطينية دليل. لن يتحقق ما يتكلم عنه آخرون من استقرار إقليمي إلا بحل القضية الفلسطينية. 
بناء الاستقرار الإقليمى أحد أولويات الدولة المصرية، لكن بناء الاستقرار لا يجوز أن يخلو من عدالة. 
تبنت مصر نهجًا متوازنًا فى إدارة الأزمات الإقليمية وفق مفاهيم العدالة ومعايير الإنسانية، فى وقت أغفلت فيه بعض القوى معايير الإنسانية، وفى زمن تغفل فيه قوى أخرى معيار العدالة.
تسير الدولة المصرية للأمام بنزاهة. نزاهة الدول المصرية هي التي أكسبتها تقدير العالم، وثقته.
يكفى عبدالفتاح السيسي أن التاريخ سيذكر له شجاعة التصدى لمخطط باقتدار وثقة ساوى فيه بين التراب والوجود. 
وساوى فيه بين الحق الفلسطينى فى أرضه، وبين حق المنطقة كلها فى الأمان، وساوى فيه بين الشرعية الدولية وقوانين الإنسانية وبين الحق فى الحياة. 
لم ولن تتخلى مصر عن دورها كقوة إقليمية تقود وتفاوض وتصارع وتتصدى وترسم الخطوط الحمراء وقت المقتضى. 
لكن، مرة ثالثة، ليس من الإنصاف أن تبقى السفينة المصرية وحدها، فى مواجهة أنواء وعواصف، بعضها مصطنع، وبعضها مدفوع. 
إذا كانت سياسات الشرف مواصفة تاريخية ومسؤولية حضارية أخلاقية، فإن مقتضيات الواجب، لابد أن تبقى مسؤولية جماعية يشد فيها الجميع حبلًا واحدًا، وينشد منها الجميع سبلًا وحيدة. 
يسألونك عن التعاون والسلام. قل لا سلام إلا بشرف، ولا تعاون إلا بعدل، ولا استقرار إلا بعدل. 
مفاهيم التعاون مثلها مثل سمات الاستقرار لم يحدث أن رضى لها التاريخ أن تخضع لتأويلات البشر أو لأهواء بنى الإنسان. 
لا يجوز مد يد بالسلام فى حين أن الأرض مغتصبة، والدماء تنزف، والأطفال تُراق دماؤهم لا تتشربها أرض انسدت مسامها من كثرة الدم.
فى قصيدة للشاعر العراقى الرائع الكبير محمد مهدى الجواهرى: إن جراح الضحايا فمُ/ فم ليس كالمدعى قوله/ وليس كآخر يسترحم.