أغاني التراث المصري الحديث: الموسيقى وثقافة الكراهية

أغاني التراث المصري الحديث: الموسيقى وثقافة الكراهية

ما زلت أؤمن بفكرة حاكمة في سلوكي تجاه الفن والفكر، وهي ضرورة تمرير المعرفة النظرية على الواقع اليومي المعاش.

ولأن الإبداع الفني بل والكتابة للناس والاشتباك مع الشأن العام حتى من منظور التخصص لا يمكن التعبير الصحيح عنها إلا بالعودة للشارع المصري والنظر في الأفكار الأساسية التي يتداولها وعلى رأسها الفنون، وتحليل مضمونها وجمالياتها حتى يتسنى لنا فهم اللغة والدلالات ومدلولاتها وإمكانية استخدامها لإنتاج الفنون وطرح الرؤى والأفكار.وفي سياق متصل لما جرى مناقشته بشأن الدراما التليفزيونية وتأثيرها على السلوك العام في الشارع المصري وغيرها من الفنون التعبيرية، تطاردني منذ فترة طويلة فكرة الكتابة عن الأغنية.ولأن الأغنية في الأنواع الإبداعية الفنية تشبه الشعر في الأجناس الأدبية من حيث قدرتهما على صناعة اللحظة الوجدانية المكثفة وتحميلها بمعان محددة، فهي الفن الأكثر قدرة على الوصول للجماهير سريعا.وكما يستطيع الشاعر التحكم في كتابة القصيدة بمفرده، وأدواته هي القلم والورقة البيضاء، فكذلك المغنى فهو قادر عبر استخدام صوته واللحن أن يصل مباشرة إلى الناس.ومع قدرة التكنولوجيا على تنفيذ الموسيقى والقدرة الأكثر سهولة في عملية تسجيل وإنتاج الأغنية ازدادت قدرة الأغنية على التكاثر والوصول إلى الجماهير.وفي هذا المعنى أود التأكيد على أهمية الأغنية وموسيقاها كأكثر أنواع الفنون التعبيرية سهولة في الإنتاج ومقدرة على التأثير.أما مسألة استعادة تأثير الأغنية منذ سيد درويش إلى الآن وأسماء الأعلام الخالدة في فن كتابتها وتلحينها ووضع موسيقاها، ومدى تأثيرها على الوجدان المصري وعلى السلوك العام للمصريين، وصنع القيم المتعارف عليها فهي مسألة معروفة للجميع ولا تحتاج لاستعادة التذكير بها.أما ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع بعد تردد متكرر فهي مسألة ازدياد روح الفردانية والعدوانية في الغناء المصري الجديد، والذي أطلق على نفسه سلفا أغنيات المهرجانات، ولما سقط هذا الاصطلاح بالتقادم أعادوا إنتاج أنفسهم في أوصاف جديدة ومنها بل وأخطرها الصفة الشعبية، والتي حاولوا قبلها استخدام قالب غنائي غربي وهو ما تم التعارف عليه “بالراب” “Rap”، وكأنهم يقدمون أنفسهم كصناع للراب المصري، وهو اختصار لعبارة الإيقاع والشعر بمعنى إلقاء الشعر على إيقاع ثابت يتسق مع القافية، وهي في الغرب أصوات متمردة تعبر عن رؤية مغايرة في الحياة، تختلف أو تتفق معها فهي تحمل رؤية ما وهذا هو قالبها، وغالبا ما يكون المؤدي هو كاتب الأغنية وهو صاحب رؤية شعرية ما في الحياة.وهكذا تم المزج بين فكرة الراب وفكرة ثقافة الهامش وحماسة الشباب لإنتاج تلك الأغنيات التي تم تسميتها في القاهرة “بالمهرجانات”، وربما يشير هذا الأسم إلى حالة الضجيج والاحتفال التي تصحب المهرجانات المعتادة، ولذلك أسماها أصحابها هذا الأسم، وها هي الآن تحمل صفة جديدة وهي صفة الشعبي.وهي ما يجب الإنتباه له على سبيل الفهم والتفسيـــــــــــر.إنها موجات العولمة التي تصل إلى كل مكان في العالم، وتحمل تلك الأغنيات القادمة من ثقافة “الهيب هوب” والتي بدأت عام 1970 في نيويورك كموجة غضب من التهميش والفقر الذي عانى منه الأفارقة واللاتينيون الأمريكيون هناك.إنها ملابس خاصة وحركات إيقاعية وإمكانية لإنتاج الموسيقى والاحتفال في أكثر الأماكن خصوصية مثل المنزل أو الشارع أو المرقص “الديسكوتيك” الهامشي قليل التكلفة، أو الأماكن غير المستخدمة.وقد ظهرت تلك الثقافة واضحة في المغرب العربي، وفي معظم الدول العربية كتعبير عن الهامش الخاص الحر الذي يعيشه الشباب العربي.ومع التطور التكنولوجي الكبير أمكن لكل فرد أن يطلق أغنياته دون محاولة الاستناد لشهرة ما، أو السعي للاستعداد لكسب مهارات لاقتحام هذا المجال المهني، فقط ومن المنزل وعبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي يمكن إنتاج الغناء ونشره وتوزيعه على نطاق واسع.أكتب سطورى هذه بينما تطاردني أيضا معلومات عن ثقافة الهيب هوب في تطورها القائم على فكرة صناعة الخصم وعدم احترامـــــــه.كما تحضر في ذهني واحدة من ثقافتها الفرعية وهي أغنيات التراب، وهو ثقافة فرعية نشأت في الجنوب الأمريكي وهي أغاني العصابات، والمعروفة بأغنيات “Trap” وهي تعبير عن فخر العصابات التي تدير نوادي الليل والبارات وتجارة المخدرات والسلاح غير الشرعي هناك، وفيها إشارات متكررة لنمط حياة خارج عن النظام والقانـــــــــــون.فهل تسربت عبر الفضاء العام المفتوح تلك الثقافة التي صنعها الهامش الأمريكي للتسلية والتأثير على سلوك البشر عبر قدرات معاصرة للعالم كقرية صغيرة تسافر فيها الصور والأغنيات بسرعة ويسر؟في حقيقة الأمر لست ممن يطالبون نقيب المهن الموسيقية بمطاردة هؤلاء الجدد، ولا حبسهم ولا منعهم من الغناء، فالسر الحقيقي وراء انتشارهم هو ذلك المنع لأن الثقافة الممنوعة أكثر قدرة على الانتشار من الثقافة المتاحة المعترف بها.أكتب سطورى تلك لطرح الأسئلة الجادة ومحاولة الفهم.ولم يكن غربيا أيضا اهتمام الباحثين والأكاديمين هناك في أمريكا بتلك الظاهرة.فقد رصد الأكاديمي د. إيميت جي أستاذ الموسيقى في جامعة نورث إيسترن (Northeastern University) ببوسطن الأمريكية.تلك الظاهرة وحللها على صعيد اللغة الإنجليزية ومفرداتها، إذ أدخلت تلك الثقافة الهامشية ألفاظاً جديدة بمعان محددة، وتم نشرها على صعيد أكبر، حتى باتت ألفاظاً جديدة ودخلت على معجم اللغة والتواصل بالإنجليزية.وهو ذات الأمر الذي لفت نظري وطارد تفكيري أكثر من مرة عن الألفاظ المستحدثة التي جاءت من تلك الأغنيات والتركيبات اللغوية العامية، والتي باتت تحمل انتشاراً غريبا.مثل “أنا البابا اللى مالوش بابا” وهي أغنيته متاحة الآن، وهي تركيب عامي يدل على كبير عصابة ليس له نظير، إنه رقم واحد في هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم “بابا المجال” حتى صارت عنواناً لأحد الدرامات التليفزيونية، وهي تعبير جاء للعامية المصرية من نوادي الليل الفقيرة ذات الطابع العشوائي، ليحضر في متن الثقافة العامة.وفي ذلك قال د. إيميت جي أنه سجل إتساع النطاق المعجمي لعبارات جديدة تعكس في الإنجليزية ثقافة “الهيب هوب” وبشكل محدد صرح بأنه:”لا يمكن التكهن بما سوف نقوله أو نكتبه خلال السنوات الثلاثين القادمة”.وهذا الأمر ينطبق علينا، هنا في مصر إذ لاحظت أغنيات منتشرة في الليل والسهر والأفراح وفي مختلف الفئات الاجتماعية، بل وأكثرها ثروة مالية تقول ما لا يقال في ذم الخصوم، وهي تسميهم في تركيبة لغوية غريبة “الأخصام”.ومنها أغنية تقول: “الدنيا زي البرش والعالم كلها أخصام”، “والبرش” بالعربية الفصحى هو قطعة قماش خشنة ينام عليها المحتجزون احتياطياً.وهناك عدد كبير من تلك الأغنيات المعبرة عن عالم التراب، وثقافة الخروج عن النظام الاجتماعي جميعها تغني عن “الأخصام” حيث الآخر، كل الآخر خصم يجب الانتقام منه.وبينما كان الغناء المصري يقوم بنشر ثقافة المحبة والتسامح والهوى والنسيم والليل الساري والشمس التي تشرق والزرع الأخضر، والناي المغني في مواسم الحصاد، يتحدث الآن الغناء عن “الأخصام” الخصوم.ماذا عن هذه الروح التي يتم نشرها ماذا عن الغناء للكراهية؟أسئلة تحتاج لإجابات جادة على كاف الأصعدة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والإبداعية. والنظر حقاً في مسألة إنتاج الفنون التعبيرية المصرية.