إسرائيليون في وسط دمشق

لا أدري لماذا أشعر بعدم ارتياح من تلك التصرفات المريبة للنظام الجديد في سوريا تجاه إسرائيل، وكأن هناك شيئًا ما يدبر في الخفاء، بين نظام الشرع وحكومة نتنياهو، يمهد لمستقبل يتنافى وكل مواقف الصمود التي أبدتها كل الأنظمة السابقة التي تعاقبت على دمشق تجاه العدو الصهيوني.
ففي رواية مريبة تثير الشك، أعلنت إسرائيل منذ أيام عن تنفيذ عملية استخباراتية قالت: “إنها دقيقة وبالغة السرية” نجحت خلالها في التوغل واختراق قلب النظام في دمشق (لا أدري كيف؟) واستعادة كل المقتنيات والوثائق السرية الخاصة بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي تم إعدامه وسط ساحة المرجة بالعاصمة السورية دمشق قبل 60 عامًا. العملية السينمائية التي وصفتها تل أبيب بـ”الالتزام الأخلاقي” قالت: إنها تمت بالتعاون مع شريك استراتيجي “لم تكشف عن هويته”، غير أن الشريك وللأسف بات معروفًا، لا سيما أن وثائق كوهين كانت محفوظة بشكل سري للغاية بحوزة أجهزة الأمن السورية منذ عام 1965، إلا أنها فجأة وبقدرة قادر باتت في حوزة الموساد الإسرائيلي، في توقيت كان نتنياهو يعد فيه لإحياء الذكرى الستين لإعدام كوهين.ورغم عدم معقولية الرواية الإسرائيلية المشكوك في صحتها، إلا أن الواقعة برمتها تعد صفعة على وجوه حكام سوريا الجدد، ومكافأة لنتنياهو، ونصر وهمي للموساد، الذي صدّر للعالم رواية أقرب لحواديت قبل النوم، وحصل دون جهد على أرشيف أشبه بالكنز، يحوي كل ما يتعلق بأشهر عملاء إسرائيل على الإطلاق، ضم نحو 2500 وثيقة، وصورًا وتسجيلات وتحقيقات سرية، ووصية كتبها قبيل إعدامه، وأوامر عملياتية كان يتلقاها من المخابرات الإسرائيلية. غير أن المؤلم، أن العملية الوهمية جاءت مواكبة لكشف وسائل إعلام عالمية عن اتصالات مباشرة تدور في الخفاء بين سوريا وإسرائيل، بعد مفاوضات غير مباشرة انطلقت فور الإطاحة بنظام الأسد، ورغم من نفي قائد الأمن الداخلي في محافظة السويداء أحمد الدالاتي قيادته للاتصال المباشر مع تل أبيب، إلا أن السفير الإسرائيلي لدى أمريكا يحيئيل لايتر خرج في وقت لاحق مبشرًا بقرب انضمام سوريا ولبنان إلى اتفاقيات أبراهام. وهو ما يعني أن “الشرع” رضخ لرغبة الرئيس الأمريكي بضرورة الانفتاح على إسرائيل خلال اللقاء الذي جمع بينهما في الرياض منذ أيام، وسلم أرشيف إيلي كوهين كاملاً لإسرائيل، كبادرة حُسن نية لترامب ونتنياهو.غير أن الكارثة، من وجهة نظري المتواضعة، لا تكمن في رضوخ الشرع وتسليم ملف كوهين، ولكن في إمعانه المرتقب في تقديم المزيد من الرضوخ، والتوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمية، والإقدام على تطبيع كارثي للعلاقات مع إسرائيل، وترسيخ واقع استعماري إسرائيلي أبدي في سوريا، إرضاءً لرغبة ترامب. كارثة التطبيع القادمة على سوريا لا تزال في حكم المجهول، غير أن التجارب السابقة مع الصهاينة تقول إنها لو تمت فلن ينال الشرع من الإسرائيليين سوى الفتات، بل والأرجح أنه سيكون دون فتات، لا لشيء سوى أن نتنياهو لن يقبل بالتراجع بسهولة عن المكاسب الاستراتيجية الضخمة التي حققها في الأراضي السورية بعد سقوط الأسد. لا سيما بعد أن ضرب باتفاق الفصل بين القوات الموقع عام 1974 عرض الحائط، وشل مفاصل الجيش السوري، وسيطر على كامل الجولان وقمم جبل الشيخ الاستراتيجية، دون أن تصوّب أي من الميليشيات التي دخلت سوريا تحت رايات الجهاد، رصاصة واحدة تجاه قواته، وجميعها مكاسب يصعب على نتنياهو التنازل عنها بسهولة. للأسف.. إن الواقع على الأرض يقول إن إسرائيل باتت اليوم على بُعد 22 كيلومترًا من العاصمة دمشق، وعززت وجودها في سوريا بتشييد 9 قواعد استراتيجية، وحزام أمني يمتد نحو 400 كيلومتر، وقناة تم حفرها بطول الحدود، وجدار أمني مزود بتعزيزات إلكترونية وعسكرية يمتد من دمشق وحتى الحدود مع الأردن، وهو ما لا يمكن إقناع نتنياهو بالتنازل عنه ببوادر حُسن النوايا، أو تطبيع مخزٍ،، ولك الله يا سوريا.. وكفى.