وداعًا السيدة الرائدة في المسرح العربي سميحة أيوب.. خسارة عظيمة

وداعًا السيدة الرائدة في المسرح العربي سميحة أيوب.. خسارة عظيمة

سميحة أيوب صورة من مصر، إنها صورة مصر العظيمة التي تجلت في العباقرة والنوابغ والأعلام، وفي مصر الحديثة أسماء وإنجازات في كافة المجالات في العلوم والفنون.

وكما حدث أن منحت أربعينيات القرن العشرين وما نتج فيها من أثر التعددية الفكرية وتنوع ثقافة المجتمع المصري مع حضور للثقافة المصرية الوسطية المستنيرة المتسامحة، وأثر كفاح فاطمة رشدي وروزاليوسف وجيلهما الرائع، حدث أن أضاء النور المصري عقل ووجدان الجدات الملهمات.أم كلثوم ثم سميحة أيوب، (1932: 2025)، وككل المواهب الكبرى التي منحها الله نورا تجلت موهبة سميحة أيوب مبكرا في الخامسة عشر من عمرها، وككل اللاتي ينشرن عطرهن الأخاذ فقد إكتملت سميحة مبكرا.فقد بدأت نجمة مضيئة وسيدة متزوجة مبكرا من أحد أفراد عائلة مصرية عريقة وهو النجم صلاح سرحان، كان ذلك مبكرا جدا في السادسة عشر من عمرها الطويل الذي عاشته حقا، بينما الفتيات في عمرها لم تغادرن الطفولة.وقد منحتها التجربة الإنسانية العميقة المبكرة فهما إنسانيا حقيقياً للفن والحياة.وسميحة أيوب تملك روحا قوية وإرادة لا تنكسر كما عهدتها على المستوي المهني والإنساني، فهي إنتقائية في اختياراتها الفنية والإنسانية ومواقفها المتعددة.روح قوية وعقل مكتمل، وقد كنا نحن الرجال نسعى لمشورتها ونحكمها الرأي في ما ينشب بيننا من خلاف، وذلك في نور محبتها عندما تشرفت بزمالتها عضوا بلجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2003 إلى 2013، وما رأيته فيها من قدرة فائقة على التواصل مع كل الأجيال، والترفع عن الصغائر والتواضع والمشاركة الوجدانية ومساندة الحق وصواب الرأي، ومقدرة نادرة على التكيف مع الظروف العامة والاحتفاظ بالإختيارات والقناعات الخاصة، مع شعور عميق بالتحقق وإدراك قيمة تاريخها العريض فنيا، وجوهر ومعنى اللقب الذي تحمله سيدة المسرح العربي.سميحة أيوب علامة كبرى من علامات زمالة المعهد العالي للفنون المسرحية، ذلك أنها من أوائل الدفعات التي التحقت بمعهد التمثيل العربي الذي أسسه زكي طليمات، وقد كان ذلك في عام 1949.ولم تكن سميحة طالبة عادية، فقد جلست في مقعد التلميذة وهي ممارسة مهنية للتمثيل في الفيلم السينمائي الأول لها وهو فيلم المتشردة، عام 1947 في النضج المبكر لفتاة الخامسة عشر ربيعا.وتوالت الأعمال وحصدت سميحة أيوب الشهرة عبر شاشة السينما، وهي الوسيلة الأكثر انتشارا وتأثيرا في الاتصال الجماهيري آنذاك، ثم ذهبت إلى عالم المسرح، وهي معادلة عكسية لمعظم النجمات في كل الأجيال.في المسرح وجدت سميحة أيوب ذاتها لأن طاقة الحضور الشخصية لها ذات طابع خاص بالغ الجاذبية باعث على الإحترام والمصداقية.غير أن المسرح أيضا يحتاج إلى خبرة وطريقة في الأداء، وقد تعلمت سميحة أيوب ذلك جيدا من أستاذها المخرج المسرحي الكبير ورائد تعليم فن المسرح في مصر الأستاذ زكي طليمات.وقد أسعدني حظي بمشاهدة مسرحية الشبكة تأليف برتولد برخت وإخراج أستاذي العبقري الأستاذ سعد أردش من بطولتها مع الفنان الكبير محمود حميدة، وقد كان حميدة متوجها كما لم أره على خشبة المسرح أو حتى على الشاشة، وهج يأتي من العمل أمام سيدة المسرح العربي سميحة أيوب.لقد سحرتني مسرحية الشبكة وقد كان سعد أردش قد أخرجها مخالفا لتقاليد برخت الإخراجية، وعلى رأسها حالة التقمص الرائعة التي أشرقت بها علينا الفنانة الكبيرة الراحلة سميحة أيوب على خشبة المسرح، وهذا هو ما أظنه أخر أعمالها المسرحية التي انخرطت فيها إبداعياً، أما مشاركتها الرمزية الأخيرة فقد كانت محبة منها لفن المسرح.قدمت سميحة أيوب مئة وسبعين عملا مسرحيا في مسيرة مهنية نادرة، وقد سحرت الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر عندما شاهدها في مسرحية الذباب أثناء زيارته الشهيرة لمصر في ستينات القرن الماضي، فدعاها لتقديمها في أوبرا باريس، ثم نالت عنها وعن إبداعها وسام فارس من الرئيس الفرنسي الراحل جيكسار ديستان. حقا كانت قادرة على صناعة هذا السحر، وتشهد بذلك مسيرتها الفنية المتنوعة بين السينما والمسرح والدراما التلفيزيونية، أما طريقتها التمثيلية التي تفهم الفارق الجوهري بين التمثيل للكاميرا في السينما والدراما التلفيزيونية، وبين التمثيل المسرحي فهي الطريقة التي تحافظ في الاقتصاد بالتعبير أمام الكاميرا، وتطلق الفنان لأدواتها ومشاعرها كاملة في المسرح، لأن هذا هو الأداء الأمثل لفن المسرح. كما أن سميحة أيوب في إدارتها للفرق المسرحية كانت نموذجا يحتذى به في الانضباط وتحقيق مفهوم الفريق المسرحي كما تجلي في إدارتها لفرقة المسرح الحديث في الفترة من 1972 : 1975، وفي إدارتها الشهيرة للمسرح القومي المصري، والتي جعلت من أسمها علامة إبداعية مسرحية تعبر عن التوافق بين المهنية وأفق تطلعات الجمهور من ناحية، ومن ناحية أخرى المزج الرائع بين الفكر والجمال في المسرح كفن إنساني عظيم، في الفترة (1975 : 1989) والتي تعد من أزهى عصور المسرح المصري الحديث والمعاصر. إنها ككل الكبار لا تشبه إلا نفسها، وهي بالأصالة عن نفسها رسمت ملامح طريقة إبداعية مبتكرة، هي طريقة وبصمة سميحة أيوب في نماذج التمثيل الكبرى في القرن العشرين. إنه تجلي الاحتراف مع الموهبة الأصلية، وتعد الأدوار المهنية التي قدمتها بطابع خاص وإخلاص نادر، والتي استحقت معها أن تكون نموذجا للأجيال كدرس في مناهج التربية والتعليم في فن المسرح.رمز كبير سميحة أيوب التي لا تنتهي عنها الكتابة ولن يتقطع عنها التأمل والفهم والمتعة الجمالية والمعرفية، درس للأجيال القادمة عن نجومية التراكم الإبداعي الذي لا يغيب.رحمة واسعة ومغفرة في جنة الخلد إن شاء الله.