شحاتة زكريا يكتب: مصر وخلق توازن بين القوى الإقليمية.. الفعالية دون ضجة

في زمن تتسابق فيه القوى الإقليمية على فرض معادلات النفوذ عبر التدخل المباشر أو توظيف الوكلاء تختار مصر طريقا مختلفا. لا تُنازع على الدور ولا تلهث خلف الأضواء لكنها تبقى دائما في صُلب المعادلة. وحين يعاد تشكيل التوازنات يُكتشف أن القاهرة كانت هناك تُمهد وتُنسّق وتُؤثر دون ضجيج ودون أن ترفع الراية في كل مشهد.
الفاعلية المصرية لا تُقاس بالظهور بل بالنتائج. لا تحتاج مصر أن ترفع صوتها لتُثبت وجودها ولا أن تُزايد على الآخرين لتضمن احترامهم. ما تمتلكه القاهرة من ثِقل سياسي وتاريخي يُمكّنها من أن تشتبك في كل الملفات المعقدة دون أن تُملي خطابها على أحد أو تُصدر نفسها بوصفها المخلص الوحيد. الفارق أن الآخرين يتحركون بحثا عن موقع بينما تتحرك مصر بحُكم الموقع. ولأن الفوضى لا تعترف بالفراغ فإن انكفاء بعض الدول واندفاع أخرى أحدث اختلالات حادة في المشهد الإقليمي فجعلت الساحة العربية مفتوحة أمام مشاريع متضاربة ومصالح متقاطعة. هنا تحديدا تظهر القيمة الحقيقية للدور المصري كضامن للتوازن لا طرف في الاختلال وكفاعل عقلاني لا لاعب متهور. مصر لا تُمارس الفاعلية برد الفعل بل بالفعل الاستباقي. فهي لا تنتظر انهيار دولة كي تتدخل ولا تنساق وراء الحماسة العابرة بل تُراقب وتُقدّر وتتحرّك حين تدرك أن أمن المنطقة على المحك. فعلت ذلك في ليبيا حين كانت الفوضى تهدد غرب حدودها. ووقفت عند خط سرت – الجفرة لا لتُطلق الحرب بل لتمنع الانهيار.وواصلت فعله في السودان دون أن تُراهن على طرف أو تُحرض ضد طرف بل باحثة عن وحدة الدولة ومصالح الشعب.في الملف الفلسطيني كانت القاهرة دائما حاضرة لا كمجرد وسيط بل كضامن حقيقي لفكرة الحل العادل والدائم. لم تتعامل مع غزة كملف أمني ولا مع الفصائل كأدوات تفاوض بل باعتبار القضية مسؤولية تاريخية لا تسقط بالتقادم. وحين تتعقد الملفات يعرف الجميع أن مفتاح التهدئة أو التقدم أو الحسم لا يُمكن تجاوزه من دون مصر. ربما أكثر ما يميّز الأداء المصري هو الحذر العاقل. فلا اندفاع غير محسوب ولا صمت يؤدي إلى الفراغ. مصر تدرك أن قوتها ليست في التصادم بل في التأثير وأن مكانتها لا تُبنى على شاشات التلفاز بل على طاولات القرار. ولهذا لم تُفرط في علاقاتها مع أحد ولم تضع نفسها في خانة المحاور المغلقة بل اختارت أن تكون همزة الوصل في زمن الانقطاع.تُجيد القاهرة فن الموازنة بين الخصوم والعبور فوق التناقضات وتحييد الصراعات دون أن تتحول إلى ساحة لها. وبينما تتورط بعض العواصم في النزاعات أو التحالفات الحادة تُبقي مصر يدا في كل الاتجاهات ، وعينا على المشهد الكامل. فهي ليست في خصومة مع الخليج ولا في عداء مع تركيا ولا في قطيعة مع إيران. لكنها أيضا ليست ساحة لتصفية الحسابات ولا جسرا لمرور الطامعين.منطق مصر بسيط ومعقد في آن: التوازن لا يعني التراخي والحياد لا يعني التواطؤ ، والفاعلية لا تعني الضوضاء. فالدولة التي خبرت الحروب وعرفت كيف تنهض من الكبوات وفهمت طبيعة الإقليم جيدا باتت تُدرك أن المعركة الحقيقية ليست على النفوذ بل على الاستقرار وأن النجاح لا يُقاس بحجم التدخل بل بنوعية الأثر.الذين يظنون أن الفاعلية تقاس بالتصعيد لا يعرفون مصر. فالقاهرة تعرف متى تصمت ومتى تقول ومتى تتدخل ومتى تكتفي بالإشارة. ولأنها لا تسعى إلى الهيمنة بل إلى التوازن فإنها حين تنجح تُنجح معها المنطقة. وحين تَظهر تُطفئ نيرانا كادت تلتهم الجميع.هكذا تفعل الدول الكبيرة: لا تثرثر بل تفعل. لا تلهث خلف الاعتراف بل تفرضه عبر أثرها. ومصر في مشهد إقليمي مرتبك تُعيد تعريف الدور القائد… بهدوء، وبتأن، وبكفاءة لا تحتاج إلى التصفيق، لأنها تُدرك أن التاريخ لا يدوّن الشعارات بل يخلد من أنقذ السفينة دون أن يلوّح برايات البطولة.