فن التفاوض: الأسس الدبلوماسية في الإسلام

تتفاخر أوروبا بعد عصر النَّهضة في نهايات القرن الخامس عشر بأنَّها مَن أسَّستْ فنَّ الدبلوماسيَّة ووضعتْ له المفاهيم الحديثة استنادًا إلى التَّطوُّر المَدَني في أوروبا الغربيَّة بشكلٍ خاصٍّ. وكما هو معلوم لدَيْنا بأنَّ هناك المدرستيْنِ الفرنسيَّة والإنجليزيَّة الَّتي وضعتا الأُسُس لذلك، متناسين أو متجاهلين بأنَّ المدرسة الإسلاميَّة والرِّسالة المحمديَّة الشَّريفة هي الَّتي خطتْ هذه المفاهيم بكُلِّ بساطة منذُ أكثر (1400) معتمدًا على الزَّمان والمكان والأحداث في كُلِّ فروع الحياة الاجتماعيَّة والرسميَّة. وفي كِتابي الَّذي صدَر حديثًا وحائز على أفضل الإصدارات في مَعرِض القاهرة الدّولي والَّذي كان بعنوان (القرآن الكريم وفن الدبلوماسيَّة) حيثُ تطرقتْ إلى أكثر (14) فصلًا تطرقت فيه إلى النَّظريَّات والمفاهيم الَّتي نشرتْ من قِبل المدرسة الإنجليزيَّة أو الأوروبيَّة هي نابعة من الدبلوماسيَّة الإسلاميَّة. يُعدُّ العصر الإسلامي وعلى مدى مراحله المُتعدِّدة شمسًا أنارتِ الطَّريق لكُلِّ البَشَريَّة من حيثُ التَّعاليم السَّماويَّة الرَّاقية في تمدُّن الحياة وانتقالها من العصور الجاهليَّة السَّوداء في كُلِّ شيء إلى قمَّة الحياة الحديثة والحضريَّة، وعِندَ بزوغ رسالة الإسلام الشَّريفة على يد خاتم المُرسَلين سيِّدنا محمد ـ عَلَيْه أفضل الصَّلاة والسَّلام ـ الَّذي بَشَّر بمبادئ الدِّين الحنيف وأرسى دعائم المَدَنيَّة العصريَّة في كُلِّ شيء، ومِنْها فنون الدبلوماسيَّة حيثُ كان إرسال المبعوثين لكُلِّ أرجاء المعمورة واعتماد الختم الشَّريف وفن التَّفاوض في صُلح الحديبيَّة كانتْ هذه بوادر إرساء عِلم الدبلوماسيَّة في إنشاء الدَّولة الحديثة المبنيَّة على أُسُس مقوِّمات العلاقات العامَّة والقيادة في إدارة الدَّولة. يُعَدُّ الرَّسول الكريم مدرسةً لأصحابه وأهْلِه ولأُمَّتِه في تعليم فنون الدبلوماسيَّة بكُلِّ مراحلها، وكان جبرائيل ـ عَلَيْه السَّلام ـ وبأمْرٍ من ربِّ العزَّة يردف الرَّسول بالآيات الكريمة من القرآن الكريم لغرضِ تدريسها وتعليمها لجميع شرائح المُجتمع الإسلامي الَّذي كان سابقًا يصول ويجول في الجاهليَّة السَّوداء بعيدًا عن كُلِّ معاني العدالة السَّماويَّة وآداب وإتيكيت الحياة اليوميَّة. وحين نتصفَّح مختلف المدارس الدبلوماسيَّة والمختصَّة في فنون عِلم الدبلوماسيَّة فإنَّنا نجد بأنَّ تاريخ الدبلوماسيَّة يبدأ من القرن السَّادس عشر ومن الغرب حصرًا وبأُصول ومفاهيم بسيطة بفنِّ الدبلوماسيَّة وأقسامه من البروتوكول والإتيكيت والإعلام الدبلوماسي والمفاوضات، وكُلّ ما يتعلق بهذا العِلم، إلَّا أنَّ الحقيقة بأنَّ الدِّين الإسلامي كان هو الأقدم في ذلك، حيثُ احتوى القرآن الكريم على أرقى المفاهيم في كُلِّ تفاصيل الحياة وعلى مدى الدَّهر، سواء في الماضي أو المستقبل. ولقَدْ كان سيِّدنا الرَّسول الأعظم هو القدوة لنا في فنِّ الدبلوماسيَّة في تعاملِه مع عائلته وأصحابه وعامَّة النَّاس لِيطبِّقَ لنَا أرقى مفاهيم الإتيكيت الاجتماعي. وتطرَّق القرآن الكريم إلى عدَّة أبواب وفصول، ومِنْها الأزمات، المفاوضات، واستقبال الضيوف وآداب الزِّيارات الاجتماعيَّة بَيْنَ الأصدقاء والأقارب والقِيمة العظيمة للمرأة عِندَ الإسلام وكيف اهتمَّ بها، وكما وردَ بالحديث النَّبوي الشَّريف وروى التّرمذي (1162) وصحَّحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ). وكذلك تطرَّق إلى العلاقات العامَّة والإعلام والمصداقيَّة في نقلِ وسرعة الخبر قال تعالى (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم): «قَالَ الَّذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي…» سورة النَّمل آية (40). وفنّ كِتابة الأخبار ولباقة اللِّسان واختيار الكلمة والعبارات المتَّزنة والهادفة وغيرها، قال تعالى: «وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ» سورة القصص آية (34). كذلك السنَّة النَّبويَّة تطرَّقتْ إلى مواضيع عديدة، مِنْها إرسال المبعوثين والختم النَّبوي الشَّريف، وأنَّ سيَّدنا محمَّدًا ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ هو أوَّل مَن استعمل الختم في الرَّسائل، وكان الختم آنذاك (محمَّد رسول الله) لِيضيفَ الخصوصيَّة والسريَّة بذلك. وحثَّ القرآن الكريم على العِلم والاجتهاد بأفضل ما يُمكِن، وقال الله تعالى في مُحكم كِتابه أيضًا، مُرغِّبًا في العِلم وحاثًّا على طلبه {يرْفعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنكمْ والَّذينَ أُوتوا العِلْمَ دَرجات} سورة المجادلة آية (11). والرَّسول محمَّد (صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم) خاتم الأنبياء والرُّسل هو أوَّل مَن أرسَى القواعد في الإتيكيت والبروتوكول، ومِنْها اختيار ألوان الملابس وأنواعها وطبيعتها.. فعلى سبيل المثال، ذكر اللَّون الأسود مرَّة واحدة وهو دلالة الحزن والكآبة، وحثَّ على ألوان الجنَّة وهي الألوان الفاتحة مثل الأبيض ومشتقَّاته، وكذلك الأخضر، وكذلك إتيكيت المشي قال تعالى: (… وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ …) سورة لقمان (19) حيثُ يُرشدنا ربُّ العزَّة على هدوء والمشي البطء؛ لأنَّه يعطي الهيبة والكاريزما العالية للشَّخص، بالإضافة إلى مستوى نبرة الصَّوت.
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت