أداء الحكومة في إدارة الموازنة العامة

كشف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات بشأن الحساب الختامي لموازنة العام المالي 2023/2024، عن اختلالات عميقة في إدارة المال العام، تصل إلى حد الإهمال المنظّم والهدر غير المبرر. التقرير الذي تضمن ملاحظات مؤسفة، يُلقي الضوء على ثغراتٍ جوهرية في الرقابة المالية، وضعف الكفاءة الإدارية، وتراكم الأخطاء التي تُحمّل الاقتصاد المصري أعباءً تفوق قدرته على التحمل.
أبرز ما يلفت الانتباه في التقرير هو هدر نحو 20.4 مليار جنيه بسبب مشروعاتٍ لم يتم الاستفادة منها، إما لضعف الدراسات الفنية والمالية، أو لتعديل التصميمات دون مبرر، أو لتعطيل الإجراءات القانونية مثل استصدار التراخيص أو إتمام نزع الملكية. المفارقة أن هذه المشكلات ليست جديدة، بل تتكرر سنوياً كسُنة حكومية راسخة، ما يؤكد غياب آليات الرقابة الفعّالة وعدم محاسبة المقصِّرين. بل إن بعض المشروعات ظلت متعثرة منذ عام 2014، مثل 2,391 وحدة سكنية لم تُستكمَل رغم مرور عقدٍ على بدء تنفيذها، ما يطرح تساؤلاتٍ حول جدوى الخطط الزمنية المُعلنة.
لا يقتصر الهدر على المشروعات المحلية، بل يمتد إلى إدارة القروض الخارجية، حيث تأخر السحب من بعضها رغم مرور سنوات على تفعيلها، ما كبّد الخزانة العامة عمولات ارتباطٍ بمليارات الجنيهات دون مقابل. هذا التعثر يرتبط بغياب التخطيط الاستراتيجي؛ فكيف تُوقَّع اتفاقيات قروض دون إعداد دراسات الجدوى أو تحديد الاحتياجات المالية بدقة؟ الأمر يشبه “استدانة المستقبل” لتمويل إخفاقات الحاضر.
وفي مشهدٍ ينم عن تراخٍ إداري مذهل، كشف التقرير عن 77.3 مليار جنيه من الإيرادات الحكومية التي لم تُحصَّل، تتوزع بين الجهاز الإداري (47 مليار)، والإدارة المحلية (1.8 مليار)، والهيئات الخدمية (28.5 مليار). هذه الأرقام ليست مجرد أرقام، بل هي حقوق شعبٍ يُفرَض عليه المزيد من الضرائب بينما تُهدر موارده بسبب إهمال تحصيل مستحقاته.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تضخم الدين العام ليصل إلى 11.5 تريليون جنيه بنهاية يونيو 2024، بزيادة 34% عن العام السابق. خلال خمس سنوات فقط، قفز الدين بنسبة 143%، ليُحمّل الأجيال القادمة فاتورةً من الفوائد وسداد القروض. هذه النسب تُنذر بانهيارٍ محتمل للسياسة المالية إذا استمرت الحكومة في الاعتماد على التمويل بالدين كحلٍ سحري دون تطوير موارد حقيقية.
التقرير لم يتجاهل دور الفساد الإداري في الهدر، مشيراً إلى “عدم سلامة القرارات” في هيئاتٍ حيوية مثل هيئة قناة السويس، وميناء الإسكندرية، وهيئة النقل العام بالقاهرة، مما أدى إلى تحميل الخزانة مصروفاتٍ غير مبررة، وضياع إيراداتٍ كان من الممكن أن تُخفف الأزمة. السؤال الأهم: كم من المسئولين في هذه الهيئات تمت محاسبتهم؟ الإجابة تُلامس جذر الأزمة: ثقافة الإفلات من العقاب.
وفي مفارقةٍ صارخة، أكد التقرير وجود أكثر من 54 ألف وحدة سكنية مُنتهية البناء لكنها غير مُسلَّمة للمواطنين، منها نحو 37 ألف وحدة لم تُخصَّص أصلاً، وأكثر من 26 ألف وحدة مُخصَّصة لكنها مغلقة. بعض هذه الوحدات راكد منذ 2014، بتكلفةٍ إجمالية تصل إلى 10.8 مليار جنيه، بينما يدفع صندوق الإسكان الاجتماعي تكاليف حراستها. أما في قنا، فـ20 عمارة سكنية (بتكلفة 59 مليون جنيه) تم تسليمها منذ 2019 لكنها غير صالحة للسكن بسبب إهمال الشركات المنفذة. المشهد يُلخص تراجع الدور الاجتماعي للدولة، التي تُنفق المليارات على وحداتٍ تتحول إلى “أطلال حديثة”.
الملاحظات الواردة في التقرير ليست أخطاءً عابرة، بل هي مؤشرات لاختلال نظامي يستدعي إصلاحاً جذرياً. آن الأوان لمراجعة آليات التخطيط والرقابة، وربط التمويل بالإنجاز، ومحاسبة كل من تسبب في هدر المال العام. كما يجب وقف سياسة التمويل بالدين العشوائية، والتحول إلى مشروعاتٍ إنتاجية تحقق عائداً يسدد الفوائد. بدون خطواتٍ جريئة، سنظل ندور في حلقة مفرغة من الديون والفساد وغياب العدالة الاجتماعية.
المواطن المصري يستحق إجاباتٍ واضحة: متى تتوقف حكومته عن إدارة الأزمات بإنشاء أزماتٍ جديدة؟!.