حقبة تحت الكرنك: مدينة مفقودة تُستعاد وتعيد تشكيل ملامح الحضارة المصرية

في فبراير 2025، أعلنت بعثة أثرية مصرية–فرنسية عن اكتشاف غير مسبوق في قلب مدينة الأقصر، تمثّل في مدينة صناعية متكاملة تقع تحت أرض معابد الكرنك، بجوار المتحف المفتوح، مما يكشف عن جانب مغمور من التاريخ المصري القديم طالما ظلّ غامضًا.
الكشف تم على مساحة تقديرية تبلغ 2,400 م² (بأبعاد تقريبية 40×60 مترًا)، وضم مجموعة من الورش، الأفران، مطاحن الحبوب، مخازن فخارية للحبوب، آبار مياه، ومبانٍ بالطوب اللبن، استُخدمت عبر فترات متتالية: من العصر البطلمي مرورًا بالبيزنطي، وصولًا إلى العصر الإسلامي المبكر.
موقع ذو طبقات زمنية: من أمنحتب الأول حتى العصر المتأخر
تواصل البعثة أعمالها حاليًا للوصول إلى الطبقات الأقدم من هذه المدينة، حيث يُعتقد أن أصولها تعود إلى عصر الدولة الحديثة. وقد تم بالفعل العثور على أكثر من 1,000 كتلة حجرية كانت جزءًا من مقصورة ترجع إلى عهد الملك أمنحتب الأول، ويجري حاليًا العمل على توثيقها تمهيدًا لإعادة تركيبها ضمن مشروع ترميم معابد الكرنك.
كنوز مذهلة: ذهب وتمائم من قلب الزمن الملكي
أحد أهم مفاجآت الموقع كان اكتشاف وعاء فخاري محطم ومحفوظ بعناية، يحتوي على مجموعة فريدة من المجوهرات الملكية، ترجع إلى نحو 2,500 قبل الميلاد. ضم الوعاء:
خواتم ذهبية نقية
تمائم مذهبّة
تماثيل صغيرة تمثل ثالوث طيبة المقدس (آمون – موت – خونسو)
بروشات مزينة وأحجار كريمة وخرز ذهبي
ويجري حاليًا توثيق هذه المجموعة النادرة وعرضها بشكل مؤقت في متحف الأقصر، تمهيدًا لعرضها في جناح خاص داخل المتحف المصري الكبير.
الزيارة الميدانية: الأمين العام يراجع موقع المدينة الأثرية
وفي سياق متصل، قام الدكتور مصطفى خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بزيارة ميدانية للموقع رفقة عدد من الأثريين والمتخصصين، لمتابعة مجريات العمل والإشراف على خطة الترميم
وقد صرّح الدكتور خالد أن المدينة المكتشفة تمثّل نموذجًا نادرًا للتكامل بين النشاط الصناعي والديني في مصر القديمة.
وأكد أن أعمال التوثيق تتم رقميًا باستخدام تقنيات حديثة، بما يشمل المقابر، النقوش، والمباني بالطوب اللبن، إلى جانب متابعة دقيقة لتأثيرات تغيّر منسوب النيل التاريخي على حفظ العناصر المعمارية.
دلالات الكشف: عبقرية التنظيم في الحضارة المصرية القديمة
يُعيد هذا الاكتشاف تعريف نظرتنا إلى معابد الكرنك، التي لم تكن فقط مكانًا للطقوس، بل مركزًا اقتصاديًا وحِرفيًا ضخمًا. يشير وجود الأفران، الورش، المخازن، والآبار إلى:
تكامل وظيفي بين النشاط الديني والحياة اليومية
نظام توزيع وإنتاج مركزي يخدم كهنة المعابد وعمّالها
مؤشرات على تطور اقتصادي وإداري مذهل في فترات متباعدة من التاريخ المصري
أبحاث أثرية حديثة: توثيق تراكمي لحقب متشابكة
أشرف على المشروع كل من الدكتور عبد الغفار وجدي (عن الجانب المصري)، والدكتور جيريمي هوردين (عن البعثة الفرنسية). وقد أكد الباحثون أن الموقع يُظهر تراكبًا واضحًا للوظائف والزمن، من الورش الفخارية في العهد البيزنطي إلى التوابيت والمقابر الصخرية التي تعود لعصر الدولة الحديثة، ما يُعطي صورة حيّة لكيفية استخدام المكان عبر أكثر من 3000 عام.
تسلسل الأحداث: من بداية التنقيب إلى صالات المتحف الكبير
نهاية 2024 بدء أعمال الحفر جنوب معبد “أخ منو”
يناير 2025 العثور على أولى التوابيت والكتل الحجرية
فبراير 2025 الإعلان الرسمي عن المدينة الأثرية المكتشفة
مارس 2025 زيارة د. مصطفى خالد للموقع ومراجعة خطة الترميم
إبريل–يونيو 2025 أعمال توثيق كاملة رقمية وأثرية
يوليو 2025 نقل أهم القطع للمتحف المصري الكبير في الجيزة
المعاني الاقتصادية والثقافية للكشف
المدينة المكتشفة تُبرز تعدد استخدامات المعابد تجذب السياح والبعثات الدولية
الكنوز الذهبية تؤكد ثراء الحياة الدينية والملكية ترفع قيمة القطع الأثرية داخل المتاحف
ارتباط الكشف بالمتحف الكبير يُكمل سردية مصر التاريخية يحفّز على الإنفاق السياحي والاستثمار الثقافي
متحف يوليو: بوابة التاريخ الحديث
يتزامن هذا الكشف العظيم مع الافتتاح المُنتظر لـ المتحف المصري الكبير في 3 يوليو 2025، والذي يمتد على مساحة 117 فدانًا ويضم أكثر من 100,000 قطعة أثرية من مختلف عصور مصر القديمة. وسيتم تخصيص جناح خاص لعرض أهم مكتشفات مدينة الكرنك، ضمن رؤية بصرية حديثة تستهدف إعادة إحياء قصة الحضارة المصرية للعالم.
“من رماد القرون… تنهض مصر لتُحدّث العالم بحضارة لا تموت”
من تحت طبقات الزمن، ومن قلب صوامع المعابد، تكشف مصر عن مدينة كانت تنبض بالحياة، وتحمل في طياتها أسرار الصناعة والدين والذهب والإنسان.
إنه ليس مجرد اكتشاف أثري، بل نقطة تحوّل في الوعي الحضاري، حيث يعيد الكرنك رواية التاريخ بلغةٍ عصرية تُعرض في أبهى صوره داخل صرح يوليو العظيم.
مصر لا تحفر فقط في الأرض… بل تحفر في وعي البشرية، لترسّخ مجدها في ضمير العالم