ورقة امتحان عمرها 72 عامًا تُظهر حملة مصرية أنقذت غزة بسعر 4248 جنيهًا

ورقة امتحان عمرها 72 عامًا تُظهر حملة مصرية أنقذت غزة بسعر 4248 جنيهًا

لم يكن الطبيب والمترجم أحمد شكري يتوقع أن تنقله صورة قديمة لورقة امتحان للمرحلة الابتدائية يعود إلى عام 1953، خاضه جده في عمر الثالثة والعشرين، إلى واحدة من أكثر الصفحات الإنسانية توهجًا في تاريخ مصر الحديث.

صورة امتحان كانت تضم سؤالًا عن “قطر الرحمة”، قادته للبحث عن القصة التي كانت مدفونة، لتنكشف أمامه رحلة تضامن نادرة، قادتها مصر، فنًّا وشعبًا وجيشًا، دعمًا للفلسطينيين في قطاع غزة، في شتاء قارس بعد نكبة 1948.

منشور الطبيب والمترجم أحمد شكري عن جده

من قلب النكبة إلى سكة التضامن

كان الشتاء قاسيًا في غزة عام 1952، مئات الآلاف من الفلسطينيين فرّوا من قراهم ومدنهم إثر الاحتلال الإسرائيلي، فاستقروا في القطاع الذي كان حينها تحت الإدارة المصرية، لا مأوى، ولا طعام، ولا دواء، في وقت تملأ فيه مياه الأمطار خيامهم المهترئة.

في مواجهة هذا المشهد الكارثي، رفض اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر، أن تطلب بلاده المعونة من دول كان لها يد في نكبة فلسطين، وقالها بصراحة في خطاب إذاعي: “من العار أن نطلب المعونة لهؤلاء اللاجئين ممن كانوا سببًا في النكبة التي حلت بهم”.

امتحان شهادة إتمام الشهادة الابتدائية لسنة 1953

قطار غير كل القطارات

من هنا، ولدت فكرة “قطارات الرحمة”، التي أطلقها الصحفي الكبير محمد التابعي، بدعم مباشر من نجيب، وبتنفيذ كامل من الجيش المصري.

قطارات محمّلة بالتبرعات، تجوب مصر من أقصاها إلى أدناها، يصحبها نجوم الفن، وتجمع ما يستطيع المصريون تقديمه من مال، وطعام، وملابس، وحتى مواد بناء.

الفنانة فاتن حمامة في “قطار الرحمة”

بدأت الرحلات في ديسمبر 1952 واستمرت حتى يناير 1953، وشاركت فيها كوكبة من الفنانين: يوسف وهبي، فاتن حمامة، شكري سرحان، محمود المليجي، مديحة يسري، محمد فوزي، أنور وجدي، فريد شوقي، نعيمة عاكف، شادية، ماجدة، عماد حمدي، ليلى مراد، وأم كلثوم.

الفن يقود القطار

لم تكن “قطارات الرحمة” مجرد عربات محمّلة بالبضائع، بل كانت مواكب فنية وشعبية، يستقبل فيها النجوم بالأهازيج والزهور، لا هتافات سياسية، بل أناشيد الحرية التي تدرب عليها أطفال المدارس بإشراف وزارة المعارف. كانت الأناشيد تمزج بفقرات فنية، تليها دعوات للتبرع، فتنهال المساهمات من البسطاء قبل الأغنياء، حتى ضباط وجنود الجيش المصري تبرعوا بيومياتهم الشهرية، بل وتنازلوا عن جزء من مؤنهم اليومية لصالح اللاجئين، وفتحوا منشآتهم لإيواء الأسر المشردة.

محمد فوزي وفاتن حمامة وشادية وماجدة يأكلون القصب في “قطار الرحمة”

مليون جنيه وأطنان من المعونات

وصلت التبرعات إلى مستوى غير مسبوق، في أسبوعين فقط، جمعت الحملة 4248 جنيهًا مصريًا نقدًا إضافة إلى 10 آلاف طن من المعونات العينية.

مدن بأكملها ساهمت بحسب طابعها المحلي، نجع حمادي أرسلت السكر، وقنا قدمت الأزيار والقلل الفخارية، والعاصمة وفرت مواد بناء تكفي لإنشاء قرية كاملة في غزة.

بحلول 21 يناير 1953، كان أول قطار قد وصل إلى غزة، وسط استقبال حاشد، وتقدير بالغ من اللاجئين الذين لم ينسوا يد العون المصرية، صعد محمد نجيب بنفسه إلى أحد القطارات مرددًا: “رجعنا منتصرين.. بهدايا اللاجئين.. لتحيا مصر ولتحيا فلسطين”.