أشرف بيدس يكتب: «برتقال يافا».. أمل العودة وفراق الحنين

حصد الفيلم الفلسطيني «برتقالة من يافا» الجائزة الكبرى في النسخة الـ46 لمهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي للأفلام القصيرة في فرنسا. وجائزة نجمة الجونة الفضية في مهرجان الجونة, وجائزة أفضل فيلم أوروبي من مهرجان كراكوف السينمائي في دورته الـ64، وجائزة “البرج الذهبي”، من مهرجان القاهرة للفيلم القصير. كما وصل الفيلم للقائمة القصيرة في تصفيات جوائز الأوسكار الـ97 فئة الفيلم القصير.
الفيلم من إنتاج فرنسا، بولندا، فلسطين، (ديفيد فرينكل، باتريك سيليكي، مارسين مالاتينسكي) تاريخ العرض: 7 أكتوبر 2023، مدة الفيلم٢٧ دقيقة, بطولة: سامر بشارات, كامل الباشا، ضياء المغربي، أمير خلوي، خالد ماير، ناصر بدر، جهاد الشوملي, تصوير سينمائي: ماتشي إيدلمان, تأليف وإخراج: محمد المغني. تم تصوير الفيلم بالكامل في مدينة رام الله, وكانت مخاطرة كبيرة من صناع الفيلم, كما قام الفنان عامر أبو مطر ببناء حاجز حزما صورة طبق الأصل من الحاجز الحقيقي. قامت قوات الاحتلال بمصادرة معدات التصوير التي تم استقدامها من بولندا وكذلك الطاقم المصاحب لها لمدة أسبوعين في مطار بن جوريون, كما تم تهديد المخرج من قبل مستوطن متطرف.
حكي محمد المغني: صوّرتُ الفيلم كاملاً في رام الله، فلسطين. من أصعب الأمور التي واجهناها كان بناء حاجز إسرائيلي كامل مُشابه لحاجز حزما قرب القدس، حتى تُطابق أحداث الفيلم الواقع قدر الإمكان. أودّ أن أذكر أن الفنان عامر أبو مطر من رام الله هو من بنى الحاجز. في فترة وجيزة، واجه صعوبات كثيرة. فخلال التصوير، تتعلق هذه الصعوبات بسلامة فريق العمل، وهذا هو الحال غالباً في مُعظم إنتاج الافلام السينمائية الفلسطينية. كما تعلمون، معدات التصوير كبيرة وثقيلة، ويتطلب نقلها وتركيبها وقتاً وجهداً. في كثير من الأحيان، اضطررنا إلى إنهاء العمل في أسرع وقت مُمكن لأن إعادة المشهد قد تُشكل خطراً على حياة فريق العمل. نظراً لعدم توفر جميع المعدات، اضطررنا لإحضار معظم معدات التصوير من بولندا. ومع ذلك، في مطار بن جوريون، تم حجزها من الطاقم البولندي لمدة أسبوعين.. طموحي أن تصل أفلامي إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، ورؤيتي الفنية أن يرى العالم قصصاً من داخل بيوت الفلسطينيين، عن سعادتهم وأحزانهم، آمالهم ومخاوفهم، وأن يكونوا قريبين من شخصيات أفلامي وكأنهم يعرفونهم مباشرة ويهتمون لأمرهم. ولعل ما يميز السينما عن الأخبار اليومية هو أنها تجعلهم يتفاعلون مع الشخصيات بشكل مباشر وعاطفي، وتهتم بهم، وتفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم.
حكي كامل الباشا: كانت هناك صعوبات كثيرة أثناء تصوير الفيلم، منها موقف لن أنساه وهو اعتداء المستوطنين الإسرائيليين علينا أثناء التصوير والتحرش بنا، وكادوا أن يقتلوننا لولا وجود مصورين أجانب معنا.
الفيلم يحكي عن “محمد” الذي يحمل تصريح إقامة من دولة بولندا، حيث يدرس هناك، إلا أنه يجد صعوبة في الوصول إلى يافا للقاء والدته التي تريد أن تصطحبه لرؤية فتاة فلسطينية ترغب في أن يرتبط بها، يحاول عبور معبر قلنديا فلا يسمح له, ثم يتجه إلي حاجز حزما بعد أن استوقف تاكسي يعبر من خلاله, لكن السائق لا يعلم أن الشاب قد حاول بالفعل عبور حاجز آخر وتمت إعادته, تكتشف قوات الاحتلال الحقيقة، وهو ما يعرضه هو والسائق للتوقيف, ويظلان في السيارة 14 ساعة في المعبر بعد سحب هويتهما، ومن دون أن يُسمح لهما بالنزول منها أو الحركة. يتشاجران سريعاً ويتصالحان سريعاً، فلكلٍّ منهما معاناته الخاصة. فسائق التاكسي لديه 5 فتيات ويخشى مصادرة سيارته ومصير بناته، خصوصاً بعد خضوعه لجراحة القلب المفتوح التي منعته من العمل في مهنة أخرى، بينما محمد مهموم بوالدته التي تنتظره.
الحواجز الأمنية في فلسطين, مثلها مثل إشارات المرور في كل بقاع الدنيا, منتشرة في كل شارع وميدان بوفرة, تشبه هذه الحواجز طوابير الانتظار المميتة, الفارق الوحيد بينها وبين إشارات المرور, أن السيارات تعبر الطريق في النهاية, لكن في فلسطين نادرا ما يسمح بالعبور, وفي الأغلب تعود من حيث أتت, وفي أحيان كثيرة يتم اصطحاب العابر إلي تحقيق يستمر ساعات طويلة, فأما أن تنجو بعد أن يمارسوا عليك كل أساليب الضغط, أو يتم الزج بك إلي السجن بتهم ملفقة, كل هذا يتوقف علي الحالة المزاجية والأمنية التي تشهدها البلاد. لذلك لم يكن غريبا أن يكون العمل مستوحيا من موقف حدث للمخرج, فالأمر ببساطة يحدث لكل فلسطيني يعيش تحت وطأة الاحتلال, ولا يوجد فلسطيني لم يقف بالساعات أمام بوابة أو معبر صهيوني. والحاجز الأمني لا يمثل داخل الفلسطينيين سوي عبء نفسي دائم يحاول المحتل تصديره لهم, وكأنه يقول لهم أنتم ممنوعون من التحرك بحرية في وطنكم.
الحياة في فلسطين المحتلة أشبه بحظر التجول في البلدان التي تشهد أحداث جسام, أجواء يخنقها التوتر والترقب وصعوبة الانتقال من مكان إلي مكان بدون أوراق ومبررات وتصاريح, خصوصا مع محتل مرتعش لص, يدرك جيدا أنه غير مرغوب في وجوده وحتي يثبت لنفسه بمشروعية هذا الوجود يبالغ في القمع والتنكيل علي الآمنين, ويحاول بكل ما يملكه من أدوات بطش من تسريب الخوف والهلع في عيون أصحاب الأرض, مباراة مستمرة من عشرات السنين استهلك من خلالها المحتل كل أساليبه الإجرامية والتي قوبلت بتصدي ومقاومة أنهكت كل مساعيه, فاخترع طرقا جديدة في الإبادة والتجويع والإبعاد, كل هذا يحدث علي الهواء مباشرة.
نجح المخرج في رصد الحياة اليومية وما يتعرض له الفلسطينيون علي بوابات العبور, وكذلك تمرير عدة رسائل مهمة عبر الأحداث وبطريقة سهلة وواقعية عن حجم المعاناة التي أصبحت كابوسا يعيشه الفلسطينيون كل صباح, فالبطل/ابن البلد يحترق قلبه في مقابلة أمه التي تنتظره, بينما الجندي/المحتل يجري مكالمة مع والدته بكل اريحية, ممارسة الضغط علي الفلسطينيين يدفعهم أحيانا للتنفيس عن ذلك من خلال العصبية التي يمارسونها مع بعضهم البعض, لكنها سرعان ما تزول.
كشف الفيلم عن الصعوبات التي يعاني منها سكان الضفة مع وجود عشرات الحواجز الأمنية والتي تجعل منها سجنا كبيرا يصعب التحرك به, وتكون المعاناة أشد وطأة عندما يحاول البعض دخول المناطق المحتلة كما حدث مع بطل الفيلم, إن كثيرا من الأعمال السينمائية الفلسطينية والتي ناقشت هذا الخناق علي السكان كان الغرض منها لفت نظر الغرب حتي يدركون كذب وزيف السردية الصهيونية, وبالرغم من أن اسم الفيلم لا ينسجم مع الأحداث لكنه وثيق الصلة برسالة الفيلم, فإذا كان البطل عجز عن الوصول إلي “يافا”, استطاع في النهاية أن يأكل برتقالة يافاوية مثلت انجازا معنويا وبأن السعي مستمر.
إلي كل المقيمين في طول الأرض وعرضها داخل أوطانهم هنيئا لكم بأوطانكم, وإلي كل العالقين علي بوابات الاحتلال ويتطلعون إلي نظرة خاطفة ويتيمة إلي أوطانهم الله معكم.. لم يبق سوى التحايل والالتفاف والوقوع في براثن الشك والريبة ممن لا يملكون شيئا ويستحوذون علي كل شيء.. ويستطيعون أن يحرمونك من تناول برتقالة يافاوية بها رائحة الأجداد حتي ولو علي سبيل الحسرة التي تشق القلب نصفين وتصيب الدماغ بالشوقة الوطنية.. التكدير لغة ثالثة تستخدم في الحوارات اليومية بعد العربية والعبرية علي المعابر وليس الغرض منها استتباب الأمن, وإنما إذلال الفلسطينيين وإخضاعهم, فالحركة من منطقة”أ” إلي منطقة “ب” حالة فلسطينية خاصة ليس لها مثيل في كل العالم, مجرد التفكير في مشروع, أو حفل, أو وجبة غداء, أو حتي رحلة إلي شاطئ البحر تحتاج لترتيبات وموافقات, وفي الغالب لا تتحقق, كل شيء مؤجل حتي إشعار آخر, كل شيء, تشبه الأيام بعضها لحد التطابق .. التماثل .. وبات التكرار المميت قرينا بنا لا يتركنا أبدا.. حتي نظن في بعض الوقت أن الأيام لا تمر ولا تنتهي..مازال نهارنا طويلا جدا.. أكبر من حجم مآسينا.. يطول الانتظار ولا يأتي فجر ولا يأتي قمر .. نهارنا شمس حارقة نئن تحتها من شدة حرارتها..
كتب رامي عبد الرازق : برتقالة يافا تلك العلامة التاريخية الأشهر التي يجب أن يجتمع عليها الجميع؛ الأجداد والأحفاد، حتى لو اختلفوا. البرتقالة المقتسمة بينهما هي التاريخ الطويل وهم المستقبل وفداحة الحاضر المهين والعنصري.. في لقطة سريعة يرى الشاب أثناء توقيفه عائلة من المستوطنين تمر بسهولة ويسر وحفاوة من المعبر بينما هو محتجز في مساحة ضيقة رغم رحابة وطنه الجميل.. يقودنا الحديث عن المساحة الضيقة الرغبة التي صاغها المخرج في أن تكون النسبة الأكبر من الفيلم مصورة داخل التاكسي، بكل ما تحمله هذه المساحة من دلالة الاختناق والحصار والتموضع في شق نفسي ضيق بالأجبار والقسر والتهديد.. يبدأ الفيلم في أول النهار حيث أزمة الشاب بكل سخافتها وعنفها المبطن، ينتهي والتاكسي يمر صاعدا الطريق نحو الأعلى في الليل المحتل لفلسطين الجميلة، والذي تهون ظلمته ضحكة العجوز بعد أن تلذذ بنصف برتقالة يافا، ملكة البرتقال.. فيلم «برتقالة من يافا» تجربة لا تأتي أهميتها فقط من كونها تتماس مع لحظة آنية مشبعة بالدم ولا لحظة تاريخية لا تندمل جراحها، ولكن لكونها أولا تطرح أسئلة الحاضر بشكل عميق وبلا ادعاء، وثانيا لأنها تمثل محاولة الأجيال الجديدة من صناع السينما الفلسطينية أن يضعوا قدمًا على أرض القضية التي لن تموت، طالما ظل هناك من يرسمها أو يغني لها أو يصنع أفلاما عنها.
*بقلم أشرف بيدس