بعيداً عن المألوف.. أمينة النقاش تكتب عن قضية السكن

بعيداً عن المألوف.. أمينة النقاش تكتب عن قضية السكن

فرضت علىّ ظروف إجراء عملية جراحية، البقاء فى المنزل لشهرين متواليين. ربما كانت تلك أول مرة منذ عدة عقود أتوقف فيها عن عمل أى شىء طوال ستين يومًا متواصلة، انتظارًا لرحمة ربنا أن يمن علىّ بالشفاء ويخفف من ألمى، ويمنحنى من كرمه ونعمته، فرصة لنوم هادئ بلا سهاد أخذ يترصدنى حتى مطلع كل نهار. ظلت تلك الفرصة عصيَّة على المنال بضعة أسابيع. فى بداية الأمر، استغربت نفسى ووضعى. فمن طبائع الأمور أن الناس تنسى نفسها فى غمرة شواغل الأيام، سواء كانت خاصة أو عامة، وفى دوران الرحلة الشاقة للعمل لانتزاع لقمة العيش من براثن الحياة. وفى تلك الأجواء قلما يخلو البشر إلى أنفسهم ويندر أن يتحدثوا إليها، أو يتوقفوا للنظر إلى دواخل نفوسهم بقدر يكفى للتعرف عليها، والطبطبة أحيانًاعلى جراحها وعدل بعض انكساراتها، والاحتفاء بالقليل من أفراحها. مع أن فى هذا الطريق بعضًا من آليات العلاج النفسى، التى تنصح الناس بالتصالح مع النفس، كضرورة من ضرورات التخفيف من ضغوط الحياة، وهمومها ومفاجآتها الأليمة.

جاءتنى الفرصة مصحوبة بألمها ووعودها بالهدوء والسكينة والتأمل. ثمانية أسابيع بلا عمل، بلا التزامات، بلا واجبات أو أعباء وبلا اجتماعات ونقاشات، وقبل هذا وبعده بلا متابعة لنشرات الأخبار، التى لم تعد تجلب سوى الاكتئاب والتعاسة، وتُدمى القلب تفاصيل شلل الإرادة الدولية، وتجرح الشعور غيبة الضمائر. «وحدى قاعدة فى البيت» كما تشدو الفنانة عفاف راضى، وحينذاك بات يخامرنى شعور دائم، أن أهتف بعلو الصوت: أنا حرة.

عاندت ألمى، وقررت تجاهله، واخترت أن أحب تلك العزلة التى فُرضت علىّ وأعفتنى من مهام الحياة اليومية. أفتح عينى فى الصباح على صوت اليمام على شبابيك شقتى، وكأنه دعوة لى للاستيقاظ. للمرة الأولى منذ عقود، استمع باهتمام وبفضول وفرح طفولى إلى هديل اليمام الذى يطوق من كل جانب منافذ الشقة التى أقطنها منذ العام 1983. ومع أنه يهدل منذئذٍ بشكل دائم، إلا أن الأمر بدا لى هذه المرة وكأنه اكتشاف، أما الاكتشاف الآخر فكان تعرفى على تفاصيل كثيرة فى منزلى لكل منها حكاية ورواية، مثقلة بالذكريات الحلوة والمرة، ومحفورة فى الوجدان بالأحلام والخيبات. لم تكن تلك التفاصيل تلفت انتباهى فيما خلا من أيام، فيا له من جانب طيب لرحلتى للتعافى من الألم.

دفعتنى الرغبة فى البحث عن السكينة، لتأمل معنى تلك الكلمة الفصحية البليغة العبقرية، التى جاء مصدرها من كلمة السكن. أعطنى سكنًا وأرمنى فى البحر، فسوف أعود للاحتماء بجدرانه آمنًا مطمئنًا. وحين أراد الخالق أن يُعبر للبشر عن مشاعر الود والطمأنينة والحنو قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا). وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا).

وساوى الكاتب السورى «زكريا تامر» البيت الذى تسكنه بالوطن. وفى قصته البديعة «البيت» يشرح لأطفال العالم أن كل كائنات الأرض لها بيت، وكل إنسان له بيت، والبيت هو المكان الذى يمنح الإنسان الطمأنينة والسعادة, لكن الفلسطينى وحده لا بيت له.. الفلسطينى لا يحيا اليوم فى بيته فلسطين، لأن بيت الفلسطينى يحيا فيه عدو الفلسطينى الذى احتل بيته.

السكن وطن. هو شقفة من روح الإنسان، هو السكون والصخب، هو بعض من تاريخ أيامه ولياليه الناجح منها والخائب. على جدرانه كتب بعض ذكريات الحياة العابرة والتافهة والمهمة. وفى أرجائه عاش صباه، ويمضى فيه كهولته وشيخوخته.

هذا السكن الذى يشمل فى مصر المحروسة ثلاثة ملايين وحدة سكنية للإيجار القديم، يتعرض الآن لهجمة شرسة من عدد من المقاولين والمستثمرين العقاريين من أعضاء مجلس النواب، الذين يشكلون أغلبية أعضائه، احترفوا فى كل دورة برلمانية التقدم بمشاريع قوانين الهدف الوحيد منها إنهاء العلاقة الإيجارية بتفسيرات فاسدة لحكم المحكمة الدستورية، وإخضاع إيجارها لمقتضيات السوق وفقًا لعوامل العرض والطلب، كى يصبح نحو 25 مليون مواطن يواصلون الحياة بصعوبة بالغة، لأن جدرانًا أربعة تأويهم، مهددين بالطرد من مسكنهم، فى كل الحالات التى ينطوى عليها مشروع القانون المقدم من الحكومة.

لم يرفض السكان فى أى وقت رفع القيمة الإيجارية بمعدلات معقولة تنظر لدخولهم المتواضعة، لكنه الجشع وعدم المسئولية السياسية. وعلى الحكومة التى تتعامل معهم طبقا للمثل الشعبى «فى الحزن مدعية وفى الفرح منسية» أن تسحب قانونها المشين من البرلمان، وأن تعدله بما يضمن حقوق هؤلاء السكان، وبما يحقق السلم والأمن الاجتماعى، إذا كانت حقًا ترنو لتحقيق العدالة، ولا تستقوى على الضعفاء بسلاح التشريع، وإذا كانت تعمل حقًا لصالح الدولة والمجتمع!.