محمود دوير يكتب: رجال ونساء “أسامة أنور عكاشة”… صراعات “دون كيخوت” وتساؤلات الهوية

*بقلم /محمود دوير
فى مايو من عام 2010 رحل أسامة أنور عكاشة، الذى ولد فى 27 يوليو عام 1941 بمحافظة كفر الشيخ، حين كانت مصر تنتظر بشغف وقلق انتهاء الحرب العالمية الثانية لتنفذ بريطانيا وعدها بمنح مصر استقلالها.
وكان الاستقطاب قد بلغ ذروته بين فريق يدعم بريطانيا العظمى أملاً في الاستقلال التام، وفريق آخر يعلن دعمه للزعيم الألماني أدولف هتلر، أو كما أطلق عليه العوام في مصر «الحاج محمد هتلر».
في تلك المرحلة المبكرة من حياة «أسامة» كان نجيب محفوظ، جبرتي الرواية، يرصد حياة المصريين وتطورها ويشرح بقلمه كل التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكان الصغير «أسامة» مولعًا بالأستاذ الكبير.
خلال فترة التكوين وبدايات نشأة علاقته بالكتابة، اقترب «أسامة» من القصة القصيرة والمسرحية ذات الفصل الواحد. لم يكن يدرك أنه يستعد ليصبح «أبو الدراما التلفزيونية». وبالطبع، فقد ساهمت بدايته الأدبية وقراءاته الواسعة للأدب العالمي والمصري في تشكيل وعيه وتنمية خياله وتمكنه من بناء الشخصيات بشكل مميز.
لم يكن «أسامة» مجرد كاتب يقدم حكايات درامية للتسلية والمتعة فقط، بل كان صاحب رؤية وفيلسوفًا ومصلحًا اجتماعيًا وواعظًا ومحللًا وغير ذلك الكثير. لكنه قبل هذا وبعده كان تلميذًا مخلصًا لنجيب محفوظ في التحليل والرصد التاريخي، ليصبح رائدًا لفن الأدب التلفزيوني على حد وصف الناقد الراحل عبد القادر القط.
حملت أعمال أسامة أنور عكاشة ملامح مشروعًا ثقافيًا مستنيرًا وانحيازًا واضحًا للغالبية العظمى من المصريين البسطاء، وانشغل خلال مسيرته بطرح السؤال الملغز الذي يقترب من المنطقة الشائكة التي تتعلق بالهوية المصرية: من نحن؟ وكان هذا السؤال حاضرا في معظم أعماله مثل «أرابيسك»، «الراية البيضا»، «زيزينيا» وغيرها من الأعمال.
ينتمي «أسامة» إلى الكتاب الذين تربطهم علاقة مدهشة مع أبطال أعمالهم، فتجده صديقًا لحسن النعماني وزميلًا لعلي البدري، وعلى تواصل مع أبو العلا البشرى وغيرهم.
هؤلاء الرجال من أبطال أعمال «أسامة»، الذين تحولوا إلى جزء من حياتنا وأصبحوا شخصيات من لحم ودم، يسيرون بيننا. لا لشيء سوى لأن الكاتب استلهمهم من حياتنا وقدمهم مثلنا تمامًا، بشراً يصيبون ويخطئون، فغابت تلك الصفة الملائكية التي سيطرت على أبطال الأعمال الدرامية قبل أسامة أنور عكاشة.
بدت أبطال «أسامة» – من الرجال والنساء – يشبهون أشخاصًا نقابلهم في الحياة بكل ما بهم من انكسارات وإحباطات، ولحظات قوة وانتصار، لكنهم في النهاية مأزومون مثلنا، وكأنهم تعبير عن واقعنا المرتبك، وأحلامنا الضائعة، وخيوطنا المتداخلة والمتشابكة.
هكذا صنع «أسامة» أبطاله عبر نصف قرن من الكتابة، وعندما نقترب من هؤلاء الأبطال، نجد روح «دون كيخوت» حاضرة بقوة في معظم الشخصيات، ونجد “أسامة” ذاته حاضرًا في شخصيات أخرى، وكأنه اختار لمشروعه هذا البطل الذي يحارب طواحين الهواء.
…………………………………………………………………..
أبو العلا البشرى… «دون كيخوت» المصري
في عام 1986، كان المشاهد العربي على موعد مع رحلة السيد أبو العلا البشرى، مهندس الري الذي قضى حياته يتابع بدقة لا تقبل الخطأ منسوب النيل في رحلته بقرى مصر. تلك المهنة التي أكسبته صفات من أهمها الانضباط الشديد الذي بدونه يغرق العالم ويعم الخراب في ربوع الوادي.
كان أبو العلا البشرى قد أنهى فترة عمله في الحكومة وبلغ سن التقاعد، وكانت آخر مهمة حكومية له في إحدى قرى كفر الشيخ. فجلس يتفقد مكتبته في استراحته – محل إقامته الحكومية – لتقع يده على كتاب «دون كيخوت. محارب طواحين الهواء».
قرر«البشرى» أن ينهى سنوات عزلته التي قضاها بين العمل والقراءة، ويقرر العودة إلى القاهرة ليعيد ترتيب العالم على الوجه الأمثل. يبدأ رحلة عبثية لتحقيق هذا الغرض النبيل في مجتمع هو ليس كذلك.
فقد مرت بالنهر مياه كثيرة منذ أن تركه حتى عاد إليه، وبدا البشرى كأنه عائد من كوكب آخر. فقد أصيب المجتمع بالكثير من الآفات وتبدلت أحواله وتغيرت معاييره.
إلا أن «البشرى» ظل متمسكًا بما يعتقد أنه صحيح، ليواجه بقدر كبير من الرفض من جانب أسرته القديمة التي اعتبرت محاولاته تدخلاً سافرًا في شئونهم، فرفضوا هذا “التطفل”، بما فيهم حبه القديم «زينات»، التي أقدمت على طرده بعد أن تدخل رافضًا رغبتها في تزويج ابنتها لثرى يكبرها في العمر بكثير.
لكن التحول الدرامي كان عندما هبطت على أبو العلا ثروة بسبب دخول أرضه كردون المباني، مما جعل قيمتها تتضاعف ليصبح مليونيرًا. فتتغير الأمور، ويسعى الجميع للاستفادة من ثروة هذا النبيل الحالم.
وهو ما يسبب له الكثير من الأزمات بسبب قيام أفراد عائلته بخداعه والتغرير به بدعوى الفضيلة، وبحجة إقامة مشروعات تساعد الفقراء وترفع المعاناة عن المحتاجين، ليتماهى «البشرى» بكل براءة مع أفكارهم الخبيثة التي لا هدف منها سوى استغلال نبل «البشرى» ومساعيه المتواصلة نحو المدينة الفاضلة التي قرأ عنها في الكتب.
خلال رحلة أبو العلا البشرى، الذي حمل سيف الفضيلة لمحاربة التحولات التي طرأت على الشخصية المصرية، ورصد كيف صارت الشخصية المصرية وإلى أي مدى أثرت العوامل الاقتصادية والسياسية في تشويه المجتمع والإنسان. لقد فقد المجتمع قدرته على تلقي الفن الجيد، وارتبكت معاييره واختلت. هكذا أراد أسامة أنور عكاشة أن يكشف ورقة التوت التي تخبئ عوراتنا من خلال ذلك المحارب الذي يشبه فرسان العصور الوسطى.
…………………………………………..
حسن النعماني… وسؤال الهوية
في عام 1994، واصل أسامة أنور عكاشة طرح سؤاله الملح والدائم، وأمسك بمشرط المحلل وامتلك وعي المفكر كي يباغتنا دائمًا بنفس السؤال: من نحن؟. إنه سؤال الهوية الذي يطارده خلال رحلته، ولا يتوانى في دفعه على طاولتنا ليطاردنا نحن أيضًا. فعكاشة لا يعرف نموذج الدراما البليدة التي يكتفي فيها المشاهد بدور المتلقي دون إعمال عقله في تفسير أطروحات صناع العمل.
واختار «أسامة» أن يكون السؤال هذه المرة على لسان “حسن فتح الله النعماني”، نجار الأرابيسك، أو إن شئت فقل إنه فنان الأرابيسك – ذلك الفن العربي الأصيل الذي تتداخل فيه قطع الخشب لتشكل في النهاية لوحة فنية مبهرة.
هكذا كان «حسن» ابن البلد الجدع والفنان الموهوب… هو أيضًا ذلك المتهور المنفلت «المزاجنجي» الذي يفعل ما “يطق” في رأسه كما يقول المصريون.
أهمل مهنة أجداده وهرب من أزماته إلى دخان الحشيش بحثًا عن عالم من الأساطير بعد أن أرهقه واقع كان قاسيًا عليه فتجاهل مواجهته وهرب نحو الكيف
هو فعليًا – كبير الحارة الشعبية التي يسكن بها – وحلّال عقدها ومشاكلها. يدرك بوعي فطري طبيعة كل من حوله، صريح إلى حد الوقاحة أحيانًا، ولا يتردد في قول الحق مهما كان.
تمتلئ الحارة المصرية بشخصيات تشبه حسن النعماني بكل تناقضاتها. فالبشر لا يعرفون هؤلاء الذين ليس لهم خطايا أو لحظات ضعف أو نزوات بشرية. هكذا كان حسن النعماني. تنطلق موهبته المدفونة في لحظات التجلي فيخرج منه أروع ما يمكن، ثم يعود إلى حالة السكون وكأنه ينتظر الفرصة ويترقب لحظة أخرى لينطلق من جديد. هو مشروع الوطن الذي يبحث عن لحظة لكي تنطلق قدراته فقط إذا اتُحت له الفرصة.
عندما التقى به الدكتور برهان صدقي وزوجته الدكتورة ممتاز محل في ورشته لينفذ لهما النعماني مشروع تطوير الفيلا الخاصة بهما. وكان المخطط أن ينفذ «أرابيسك» وفق تصور المهندس المسئول “شريف ظاظا”، وهو أن يبني في الفيلا عدة زوايا وأركان تمثل تاريخ مصر ومراحله من الفرعوني إلى الإسلامي.
استجاب «أرابيسك» لكنه في نهاية المطاف اكتشف استحالة تنفيذ هذا. ويأتي الزلزال ليظن الجميع أنه تسبب في هدم الفيلا – مصر. ويطرح حسن النعماني سؤال الهوية قائلاً: “سواء أنا أو الزلازل أو التوابع هو السبب ما يفرقش لأن ده مينفعش… السَّلطة متنفعش… البظريمت مينفعش… وبعدين الفن اللي بجد ما هواش طبيخ… الراجل جه وقال عايزين نعمل تحفة ترمز للتاريخ كله… حلو؟ بس تاريخ مصر كبير أوي… طويل قوي… يبقى نعمل إيه؟ هل نديله فرعوني على قبطي على روماني على يوناني على عربي؟”
مينفعش طبعًا لأن الذوق غير الذوق والطعم غير الطعم واللون غير اللون.
يبقى ممكن نعمل إيه… ما دام تاريخ مصر كبير أوي كده يبقى لازم نعرف تاريخنا، وأما نعرف تاريخنا، ولما نعرف مصر كانت إمتى مصر بذاتها هنعرف إحنا مين، ولما نعرف إحنا مين هنعرف إحنا عايزين إيه؟
“لازم نعرف إحنا وعايزين إيه.”
ليخرج صوت الدرويش مرددًا: “حسن طالع… حسن راجع… حسن جاي.”
هكذا كان السؤال الشائك والدائم الذي طرحه “حسن أرابيسك”… سؤال الهوية. وهكذا كان المبدع الحقيقي “أسامة أنور عكاشة” مهمومًا بمصر وناسها وقضاياها وتاريخها.
………………………………………………………
بشر عامر عبدالظاهر… مفتاح السر
كان مسلسل «زيزينا» الذى أخرجه جمال عبد الحميد ينتمي لسلسلة أعمال طرح الأسئلة المباشرة من أسامة أنور عكاشة ومن خلال شخصية بشر عامر عبد الظاهر، التي جسدها الفنان يحيى الفخراني.
في عام 1997، أطل علينا «بشر» بجملته الشهيرة: “أنا السؤال والجواب … أنا مفتاح السر وحل اللغز، أنا بشر عامر عبد الظاهر”.
هو سر الخلطة المصرية التي كثيرًا ما أشار إليها «أسامة» واختار معشوقته وملهمته “الإسكندرية”، تلك المدينة التي احتضنت ثقافات مختلفة واستوعبت جنسيات متعددة، لتكون مسرحًا لطرح السؤال والبحث عن الجواب، وكأنه أراد أن يؤكد أن في تكوين هذه المدينة “الكوزموبوليتية” مفتاح السر، وأن «بشر» يشبه الإسكندرية ويمثل تنوعها دون ارتباك حقيقي، حتى وإن بدا عكس ذلك.
كما اختار «أسامة» حقبة الأربعينيات من القرن العشرين لتكون مسرحًا زمنيًا للأحداث، باعتبار أن النصف الأول من القرن الماضي كان ذروة ذلك التنوع الحضاري الذي اتسمت به الإسكندرية.
ولد بشر عامر عبد الظاهر من أب مصري – تاجر ميسور بحي المنشية حيث مركز التجارة في المدينة – قرر في لحظة أن يستجيب لنداء الحب وجاذبية وجمال السيدة الإيطالية ليكون نتيجة زواجه من السيدة “فرانشيسكا” طفل “نصف مصري – نصف إيطالي”.
يكبر الطفل ويصبح شابًا يعاني ثنائية الثقافة والحضارة بين والده الذي يعيش في أحياء المدينة الشعبية وبين أمه وعائلتها التي تحكمها تقاليد مغايرة تمامًا.
“بشر” الذي يرتدي الجلباب نهارًا والبدلة ليلًا، يتنقل بين العالمين برشاقة ودون ارتباك، ويتوقف كل حين ليسأل نفسه: “أنا مين؟”.
هو الخواجة «بشر» كما يناديه سكان المناطق الشعبية مثل كرموز والمنشية، حيث يعمل ويسكن الأب، وأهل زنانييري حيث “ولاد البلد” وحلقات النضال ضد الإنجليز، أم أنه “بيتشو” كما تلقبه أمه وقاطنو “الرمل” وسكان المدينة من خواجات العالم الراقي؟
هذا هو السؤال الصعب الذي طرحه “أسامة”.
سعى «بشر»_ وهو الذي ورث عن والده نزواته وخفة ظله ورجاحة عقله، وورث عن أمه أناقتها وذوقها الرفيع وكثيرًا من التهور والاندفاع، يصل إلى درجة تصنع الكثير من الأزمات – سعى كي يتصالح مع تلك الثنائية.
جمع «بشر» هذا الخليط السحري والمتناقض لكنه يهضمه في نسيج واحد متفرد ليصير شخصية مصرية متعددة الأبعاد. هكذا أراد “عكاشة”، وبهذا آمن دائمًا أن الشخصية المصرية هي نتيجة تفاعل بين كل الحضارات التي تماست معها بمستويات مختلفة، ليؤكد المفهوم الذي صكه الراحل الكبير “جمال حمدان”، بأن مصر هي “سبيكة حضارية” تفاعلت بها ثقافات وحضارات متعددة لتصنع شخصية متفردة بها، تنصهر فيها كل الثقافات المتعددة التي تبدو متعارضة أحيانًا لكنها كونت شخصية “بشر”، ليبدو هذا النموذج كأنه سبيكة تداخلت فيها معادن عديدة لتشكل حالة مغايرة ومحيرة ومركبة لكل من يقترب منها ولا يتمكن من استيعابها وفك رموزها.
لم يكن “بشر” إيطاليًا بحكم الأم وسنوات النشأة الأولى، ولم يكن يشبه إخوته من والده “خميس ومرشدي وإكرام”. ورغم المحاولات المتواصلة من جانب الطرفين لاجتذاب بشر وتقديم كافة الإغراءات، حيث خاله “جيوفاني” عمدة الإيطاليين بالإسكندرية يدفع به نحو عالمهم وأموالهم ومكانتهم الاجتماعية، بينما يسعى الأب “عامر عبد الظاهر” إلى حثه على الحياة بينهم من خلال تفويضه بإدارة تجارته.
تحتدم المحاولات وتتصارع المصالح، لكن “بشر” ظل منشغلاً بالبحث عن نفسه، عن روحه المشتتة ورؤيته المرتبكة إلى أن يصل إلى أنه هكذا يكون “مصريًا بكل ما يحمل من تعدد وتنوع”.
إنها نظرية السبيكة كما قلنا وكما أرادها “أسامة” عند “بشر عامر عبد الظاهر”
…………………………………….
على البدرى … جيل الأحلام الكبرى والانكسارات العظيمة
حين اندلعت ثورة يوليو 1952 وبدأت خطواتها تتسارع نحو تحقيق الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، كان في مصر جيل من الشباب طالما حلم بالجلاء، وناضل بأشكال مختلفة من أجل تلك اللحظة. كان “على سليم البدري” يعيش مع خالته “أنيسة” وزوجها “توفيق البدري” بعد أن رحلت أمه مبكرًا وتركه والده “الباشا” لأنيسة كي تكمل تربيته.
كان قرار الباشا “سليم البدري” لا يخلو من أنانية ورغبة في التفرغ لطموحاته الجامحة، ورضوخًا لرغبة زوجته الأولى “نازك السلحدار” التي ترى في “على” تجسيدًا لهزيمتها أمام “علية” بنت “القماش” (مهنة والدها) في معركة الاستحواذ على سليم البدري. إذاً، فلم تكن موافقة الباشا استجابة فقط لرغبة “أنيسة” الملحة في الاحتفاظ بـ”على”.
نشأ “على” في شوارع الحلمية التي تميزت في تلك المرحلة بالجمع بين المتناقضين؛ فهي سكن الباشوات ورجال المال والسلطة، ممتلئة بقصورهم ومنازلهم الفارهة. وعلى أطراف الحي العريق كانت منازل بسطاء الحلمية من العمال والحرفيين. إنه التفاوت الطبقي الصارخ الذي كانت تعيشه مصر، ويتجلى في حي “الحلمية”.
في تلك الأجواء، تربى “على البدري”، ذلك الفتى الحالم الرومانسي، يتشبث بالحلم الذي تحقق ويتعلق عقله بصوت “جمال عبد الناصر” ومبادئ وخطى ثورة يوليو. كما يهيم في عالم “عبد الحليم حافظ” وهو يخطو في طريق قصة حبه الكبرى مع “زهرة سليمان غانم” التي تجمعها به ظروف نشأة قاسية ومرتبكة. يحلق “على” في سماوات الحلم الناصري، ويشتعل قلبه يوماً بعد يوم بحب “زهرة”.
حتى تعصف هزيمة يونيو 1967 به، وتفقده توازنه كما فعلت بالجميع، وكأنما استيقظ على كابوس الهزيمة، منهار القوى منكسر الإرادة. تستهلكه أسئلة بلا إجابة عن سبب ما جرى.
على المستوى العاطفي، تتوالى الانكسارات رغم نبله، فيضحى ببعثة تعليمية لاستكمال دراسته العليا من أجل عيون “زهرة”، ورغبتها القوية في البقاء بمصر حفاظًا على مسيرتها التي بدأت في عالم الصحافة. ثم يكتوي “على” بنيران الاعتقال وتغيبه في السجون سنوات بعيدًا عن حبيبته بسبب انضمامه للتنظيم الطليعي، مما يتسبب في اعتقاله في قضية “مراكز القوى” الشهيرة.
يخرج “على” من محنة الاعتقال ليجد كل شيء قد تغير، حتى القدرة على الحلم لم تعد باستطاعته. وتزداد جراحه عندما تتخلى عنه حبيبته وتتزوج سرًا من رئيسها في العمل بحثًا عن مكاسب مهنية، ولا تكترث بـ”على” الذي يقضي عقوبة إيمانه بأفكار “يوليو” ومبادئها.
يبدو الانكسار عظيمًا بنفس عظمة الأحلام التي حلقت في مخيلته حول العدل والاستقلال والحب الأفلاطوني الطاهر، التي عصفت بها المتغيرات العنيفة. تلك المتغيرات التي جعلت كلا منا يدور حول نفسه 180 درجة. “الكل فقد توازنه”، هكذا برر “على” مرحلة الانهيار النفسي التي أعقبت أزماته المتتالية.
يستيقظ الشاب الحالم، الذي تبددت روحه وانطفأ بريق عينيه ولمعة وجدانه المشتعل بحب الحياة، على رغبة قوية في الانتقام من كل من سرق حلمه. لكنه في حقيقة الأمر ينتقم من نفسه وتاريخه وكل ما آمن به في الماضي.
تشهد شخصية “على” تحولًا جذريًا وينجذب يمينًا بقوة هائلة، متوجهًا نحو قوانين المرحلة بكل سوءاتها ونواقصها. يقرر التعامل مع المتغيرات العاصفة واللعب بأدواتها. إنها أدوات الانفتاح – السداح مداح – كما وصفها أحمد بهاء الدين.
يستغل عودة والده إلى مصر وتأسيس شركة كبرى للاستثمار، وبسرعة كبيرة يصبح “على” هو الرجل الأول فيها والمتكلف في مصيرها. يحقق نجاحًا كبيرًا على مستوى الربح، لكنه نجاح بطعم الهزيمة، فقد استخدم كل مفردات السوق الرديئة التي طالما عارضها في شبابه. فلم تعد الرشوة في نظره سوى “إكرامية”، ولم يعد الإفساد سوى شطارة، واللعب بأوراق المرحلة… إنه الانكسار كما رآه أصدقاء العمر والدرب مثل “ناجي السماحي” ورفيق المعتقل “جلال شهاب”.
حتى والده الرأسمالي الكبير الذي ظل يحلم بمشروع صناعي حقيقي بعيدًا عن أجواء السمسرة والتوكيلات والمشروعات الاستهلاكية التي جنح إليها “على”.
كل هذا كانت نتيجته ضربة جديدة لـ”على”، فقد تعرض لمحنة التحفظ على أمواله من جانب المدعى الاشتراكي وأجهزة الكسب غير المشروع، وصار مهددًا بالحبس في قضايا فساد. المناضل القديم الذي قضى أجمل سنوات شبابه في المعتقلات دفاعًا عن اختياراته السياسية وثمنًا لانحيازاته الفكرية، أصبح الآن مهددًا بالسجن بسبب فساده المالي! أي انكسار هذا؟ ولم يتوقف الأمر عند حدود التهديد بالسجن، فقد تم استدعاؤه للتحقيق أمام الجهات الرقابية ليواجه تهمًا بالفساد المالي وتسهيل الاستيلاء على المال العام.
ينجح “يحيى خليف” خصمه، الذي طالما دعمه واستعان به في الأعمال القذرة، في استدراج المناضل القديم ليصبح فاسدًا حتى النخاع تحت دعوى “إدراك أدوات وقواعد المرحلة”. هو الإنكار في قمته والتراجع في مداه الأقصى.
رغم كل شيء، لم يستطع “على” التخلص من سطوة وهيمنة حبه لـ”زهرة”. ولم يشف من مرض عشقها رغم كل ما جرى، ورغم إدراكه أنها كانت صاحبة الضربة الأولى التي أربكت حياته وأخلت بتوازنه منذ ضاعت بعثته للدراسات العليا، وما ترتب عليها من تغيير كبير في مسار حياة الفتى المتفوق الطموح، الذي اختزل طموحه في “زهرة”، وركز حلمه في أمل الزواج منها واستكمال قصة حبهما الملهمة والمؤلمة.
وكأنه يبحث عن معذبته أو يبحث عن سنوات البراءة في عينيها وبين تفاصيل ذكرياتهما معًا.
على البدري الذي أطل علينا في ملحمة “ليالي الحلمية” عبر خمسة أجزاء.هو مثال دقيق لأبناء جيل الأحلام الكبرى والهزائم الكبرى.
جيل “على البدري”… جيل شب على أحبال صوت “عبد الناصر”، وهو يغني بالعزة والشموخ، يغزل بخطاباته أحلامًا لوطن حر يسوده العدل… هذا الجيل الذي توحد مع أغنيات “عبد الحليم حافظ”، وتشكل وجدانه على ضفاف حنجرة العندليب مع موسيقى كمال الطويل وكلمات صلاح جاهين. تعلم نشيد الثورة وزرع بذوره في بستان الاشتراكية وعاش انتصارات الثورة، لكنه استفاق على زلال لم يكن يتوقعه حين أسقطت هزيمة يونيو على رأسه كل شيء وتحولت الأحلام إلى كوابيس.
وكسرته هزيمتها… جيل لم يحقق الكثير من طموحاته الشخصية أو العامة، فسرعان ما انقلبت الموازين بعد رحيل “ناصر” في 1970 لتعلو بعد سنوات قليلة أصوات “الهليبة” وأثرياء الانفتاح منذ 1975، ولم يعد صوت المعركة عاليًا، فقد كانت “أكتوبر” آخر الحروب، والسلام مع إسرائيل هو الخيار الاستراتيجي، وكل أوراق اللعبة في يد أمريكا.
تغير كل شيء… كل شيء… ولم تعد الأرض ثابتة، فقد دارت بسرعة مذهلة أصابت الكثيرين من ذلك الجيل بالدوار وفقدان التوازن، وعلى قدر براءة الأحلام كانت قوة الدوار.
سقطت أمام “على” كل الأحلام… لكن يظل انكسار حبه لـ”زهرة” هو الأشد قسوة، ربما لأنه تزامن مع الانكسارات الفكرية والأيديولوجية، ولم يجد طوق نجاة ينقذه من الغرق بعد أن تلقى طعنات غدر من حب عمره.
…………………………………..
نساء أسامة أنور عكاشة…
يمكن القول بكل ثقة وطمأنينة أن «عكاشة» هو واحد من أفضل الذين رسموا شخصية المرأة المصرية بكل ملامحها المتداخلة وكافة تناقضاتها وتمكن أكثر من غيره في مجال الكتابة الدرامية من أن ينسج للمشاهد بروعة فائقة حياة ودور وتأثير الأم المصرية في مجتمع يعاني منذ سنوات من ذكورية مقيتة وتراجع لدور المرأة في مختلف مناحي الحياة رغم تحقق بعض المكاسب في مجال المشاركة العامة والقوانين المنظمة لعلاقة الرجل بالمرأة إلا أن المناخ الثقافي والقيمي الحاكم لحياة المصريين يظل أقل مما يجب في هذا.
«زينب جعفر» …. أم الشهد والدموع
في عام 1983 قدم عكاشة مع المخرج “إسماعيل عبد الحافظ ” واحدة من أنجح مسلسلاته والذي ساهم في تعريف الملايين بكاتب مميز ومتمكن وقادر على الكشف عن المتجمع بمهارة وهو مسلسل “الشهد والدموع ” وجاء المسلسل الاجتماعي ليرصد صراعا تقليديا بين قوى الخير والشر من خلال عائلة واحدة وما يحيط بها من تفاعلات وتناقضات وقدمت الفنانة “عفاف شعيب ” دور الأم “زينب جعفر ” زوجة الراحل “شوقي رضوان ” الذى توفى بأزمة قلبيه نتيجة إحساسه بالظلم من شقيقة ” حافظ رضوان ” الذى جسده يوسف شعبان
وقد رسم “عكاشة ” شخصية زينب التي حملت عبء تربية أنبائها بعد وفاة زوجها وقبضت على حزنها المقيم بداخلها انتظارا للحظة القصاص من الظالم بكل السبل والتي من أهمها حسن تربية أبنائها حتى يكونوا أفضل من أبناء عمهم المتسبب في قتل أبيهم
فقدم عكاشة شخصية الأم المصرية القوية المتماسكة القادرة على تحمل المسئولية في أحلك الظروف والتي أجبرها القدر فجأة إلى أن تتولى مهمة الأب والأم في نفس الوقت وهذا حال مئات آلاف من الأمهات المصريات.
أنيسة بدوي … كل هذا النبل
من بين كل ما قدّمه “عكاشة” من شخصيات تمثل الأم المصرية، تظل شخصية “أنيسة بدوي” في ليالي الحلمية ذات مذاق خاص وتفاصيل مفعمة بالنبل والإنسانية والصدق.
فقد نجح تمامًا في رسم الشخصية بكل ما بها من انفعالات وصراعات نفسية ووجدانية، وبكل ما يمكن أن يُعبِّر عن هذا النموذج من النساء؛ وهو نموذج “الأم التي لم تلد”، تلك التي تظل طوال عمرها تحلم بالأمومة، دون أن يظهر عليها إحساس – ولو صغير – بالدونية أو النقص، أو حتى يتحول هذا الاحتياج الإنساني إلى مصدر توتر بينها وبين زوجها “توفيق البدري”.
جاءت شخصية أنيسة، التي لعبتها في الجزء الأول “فردوس عبد الحميد”، ثم استكملت تقديمها في باقي أجزاء أيقونة “عكاشة الدرامية” الممثلة المبدعة “محسنة توفيق”، متصالحة مع إرادة الله في عدم الإنجاب. ورغم توترها وغضبها في البداية، فإنها عوّضت أمومتها المفتقدة في تربية نجل أختها الراحلة “علي البدري”، ثم نجل زوجها الراحل “توفيق البدري”.
ظلت علاقة “أنيسة بدوي” و”علي البدري” شديدة الخصوصية، رغم التحولات الجذرية التي أصابت شخصية “علي”، لكن أنيسة بقيت الملاذ الدائم، والحضن الواسع القادر على استيعاب كل أوجاعه وانكساراته. كانت القلب الوحيد الذي يمكنه أن يتعرّى أمامه من عيوبه، تلك النواقص التي تعيها وتدركها “أنيسة” أكثر من أي شخص آخر، حتى والده “سليم البدري” أو أخيه “عادل البدري”.
يمثل نموذج “الأم التي لم تلد” أحد أعظم أشكال الأمومة وأكثرها صدقًا ونبلًا وإيثارًا، وقد تمكن عكاشة بقوة من تقديم هذا اللون من الأمومة الاستثنائية.
أم حسن النعماني … صانعة الأرابيسك
في عام 1994، قدم عكاشة مع المخرج “جمال عبد الحميد” رائعة مسلسل أرابيسك، ذلك العمل الذي اشتبك مع قضية الهوية المصرية وجدل الصراع الحضاري من خلال حرفة صناعة الأرابيسك. وفي هذا العمل، جاءت شخصية “أم حسن النعماني”، التي جسدتها “هدى سلطان”، تلك الأم المصرية التي احتضنت أبناءها بعد رحيل زوجها، وظلت محتفظة بالزي الأسود ما تبقى من عمرها.
جمعت “أم حسن” بين قوة الشخصية وصلابة الموقف، وبين قدرة عالية على الاستيعاب وإدارة حوار دائم مع أبنائها، خاصة “حسن”، الذي يعيش حياة غير مستقرة بعد انفصاله عن زوجته، ابنة خالته.
حرص عكاشة دائمًا على تقديم الأم المصرية من أجيال مختلفة وأنماط متباينة، وانحاز بشكل واضح للأم من الجيل السابق، التي كانت بمثابة “وتد” الأسرة – على حد تعبير الراحل خيري شلبي – وتمكن من الغوص في أبعاد لم تكن سائدة في الدراما المصرية، التي غرق الكثير منها في ثنائية “الخير والشر”، بينما اختار “عكاشة” أن يقدم الإنسان بكل ما فيه من تناقضات… خيره وشره.
لذلك كان الأقرب إلى الواقع، والأصدق في تقديم نموذج الأم المصرية في الدراما التلفزيونية.
“ست إخوتها”… أم المصراوية
في عام 2007، قدم «عكاشة”»الجزء الأول من ملحمة طالما حلم بتقديمها، ترصد حياة المصريين عبر مئات السنين، وكانت الأم “ست إخوتها”، التي جسدت دورها الفنانة القديرة “سميحة أيوب”، نموذجًا مليئًا بالتفاصيل.
هي التي تدير شئون القرية وتبدي رأيًا حاسمًا في كل القرارات، زوجة العمدة الراحل وأم العمدة الابن “فتح الله الحسيني”، الذي يعيش صراعًا نفسيًا وحضاريًا دائمًا بين زوجته سليلة الأسرة الخديوية، والتزاماته تجاه مهام العمودية في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ.
يقدم عكاشة الأم “ست إخوتها”، التي تسعى طوال الوقت للحفاظ على مكانة “فتح الله” باعتباره عمدة القرية وكبيرها، ولا تتردد في توبيخه وتقسو عليه إذا تطلّب الأمر، لكنها تتحول إلى سيدة تبجّله وتُعلي من قدره أمام الناس.
قدّم عكاشة “ست إخوتها” التي تمتلك الكثير من الحكمة والحزم، وتُجسِّد محبة الأم وعطفها، وقدرتها على تحقيق العدل بين أبنائها.
الحاجة “آمنة”… عاشقة زيزينيا
في عام 1997، قدم عكاشة مع المخرج “جمال عبد الحميد” مسلسل زيزينيا، الذي امتد لجزءين. وكانت شخصية “الحاجة آمنة”، زوجة الحاج “عامر عبد الظاهر”، والتي جسدتها الراحلة الكبيرة “هدى سلطان”، واحدة من أهم الشخصيات النسائية التي جسّدت شخصية الأم باقتدار.
جاءت شخصية “آمنة” بقدرتها الكبيرة على الإيثار والعطاء، لتكشف عن جانب مهم من جوانب الأم المصرية، التي تحتضن “بشر عبد الجواد”، ابن زوجها وابن “الخواجاية”. لم يكن هذا سببًا في أن تحمل تجاهه مشاعر كراهية، بل على العكس، فقد كانت تعتبره ابنها.
تلك الأم التي خرجت سهام الغضب من كيانها المتسامح حين علمت بزواج زوجها من أخرى، فقررت أن تنهي أي علاقة معه دون طلاق حتى لا تجرح مشاعر أبنائها. فأمرته – وهو الحاج عامر، بكل ما يملك من قوة شخصية ونفوذ ومال – أن يحمل حقائبه ويرحل، فلم يجد أمام قوتها وإصرارها وإحساسها بالجرح سوى تلبية أوامرها وترك المنزل.
هكذا قدّم “عكاشة” الأم المصرية القوية رغم رقتها، المتمسكة بحقها رغم تسامحها، الغيورة على كرامتها رغم تضحياتها العديدة.