إبراهيم نوار يكتب: آثار خفض أسعار الفائدة وانتهاء قرض صندوق النقد

في إطار سياسة إدارة الدين العام وتخفيف أعبائه، بدأت الحكومة دورة مالية جديدة يتم خلالها تخفيض أسعار الفائدة على الودائع وشهادات الاستثمار والأوعية الإدخارية المختلفة. لكن دورة تخفيض العائد على المدخرات لن تترافق مع تخفيض حجم الديون المستحقة، ولا مع تخفيض شهوة الدولة للاقتراض. وتكشف الموازنة الجديدة ان قيمة الاقتراض وإصدار الأوراق المالية ستزيد بنسبة 25.5% تقريبا، أي ما يقرب من ضعف معدل التضخم المتوقع. قيمة الاقتراض وإصدار الأوراق المالية بواسطة الحكومة في السنة المالية الجديدة ستصل إلى 3.6 تريليون جنيه تقريبا، مقابل 2.8 تريليون في تقديري الموازنة الحالية. هذا يعني أيضا أن قيمة الاقتراض الحكومي تزيد حاليا عن أكثر من ثلاثة أمثال ما كانت عليه في السنة المالية 2020/2021.
هذه السيولة الضخمة التي تحصل عليها الحكومة من الجهاز المصرفي ومؤسسات التمويل المحلية والأجنبية تمثل محركا قويا للتضخم والضغط على قيمة الجنيه إلى أسفل، ومن ثم تخفيض مستوى المعيشة بشكل عام.
تداعيات هبوط العائد على المدخرات
وفي الوقت نفسه فإن تخفيض أسعار الفائدة على شهادات الاستثمار والودائع بمقدار يزيد عن الثلث، يصل في بعض الأوعية إلى تخفيض بنسبة 40% ، يضع ملايين الأسر المصرية التي تعيش جزئيا أو كليا على فوائد الودائع وشهادات الاستثمار، مثل أسر أصحاب المعاشات من الموظفين الكبار السابقين، ومتوسطي الحال من أسر المصريين العاملين في الخارج، في وضع صعب جدا، مما قد يسقط البعض منها في هوة الفقر. أما بالنسبة للفقراء فحدث ولا حرج. تداعيات انخفاض أسعار الفائدة من المرجح أن تستمر لسنوات، خصوصا وأن الحكومة تسعى الى تخفيض عبء ديونها بالحصول على أموال رخيصة من أوعية المدخرات المحلية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الدولة ستفقد جزءا أساسيا من قدرتها على الاقتراض من الخارج، بسبب انتهاء قرض التسهيلات الممددة لصندوق النقد الدولي، فإنه ليس أمامها إلا زيادة مواردها عن طريق بيع وتأجير الأصول العينية المملوكة للشعب والأجيال القادمة لصالح مستثمرين غير مصريين، وزيادة الاقتراض الرخيص من الداخل، من خلال تخفيض أسعار الفائدة، إلى جانب السعي بكل الأشكال للحصول على قروض أجنبية مهما كانت تكلفتها.
ما نخشاه أيضا مع استمرار التوسع في الدين المحلي وبيع وتأجير الأصول المملوكة للشعب، هو أن تمد الحكومة يديها مرة أخرى للاقتراض من صندوق النقد الدولي، مع استمرار السياسات الاقتصادية التي جرى تكرارها خلال العقد الأخير. وتلوح في الأفق علامات تشير الى أن الحكومة ماضية فعلا في طريق إنشاء ما تطلق عليه “المشروعات القومية”، وهي في جملتها مشروعات فاشلة، تحوطها علامات استفهام كبيرة جدا، بسبب انعدام الشفافية وغياب المساءلة، وانحسار نطاق الرقابة المالية وعدم فاعليتها. الخطير في هذه المشروعات أنه يتم تمويلها بديون تقترضها الحكومة، يتحمل المواطنون تكلفة سدادها مع فوائدها، بينما تتربح منها شركات لا تخضع للرقابة، من خلال الحصول على عقود مقاولات التنفيذ، وينتفع من خيراتها مستثمرون أجانب. إن حياة هذه الشركات تنتهي إذا توقفت العقود الضخمة التي تحصل عليها من الدولة وتعيد توزيعها على المقاولين، وتتمتع الدولة بسلطات سيادية للاقتراض من الداخل والخارج وفرض الضرائب والرسوم داخليا لسداد القروض وفوائدها.
تدهور الناتج المحلي
يتم تصنيع أرقام التضخم وتكلفة المعيشة، كغيرها من الأرقام بما يبرر السياسة التي تراها الحكومة صالحة للوقت. وتمضي الحكومة في طريق إنكار الواقع حتى يأتي وقت لا تستطيع فيه الاستمرار في ذلك، خصوصا عندما تتعلق المسألة بالعلاقة مع المستثمرين الأجانب، وصندوق النقد الدولي. وتضطر للاعتراف بوجود أزمة، وكأن تلك الأزمة قد حدثت بين يوم وليلة. وفي كل تلك المناسبات كان الجنيه المصري هو الضحية، كما حدث منذ عام 2016، بتخفيضه من 8.88 جنيه للدولار إلى أكثر من 50 جنيها في الوقت الحالي، وذلك رغم استمرار القيود الإدارية على التحويل بين العملات. وقد أدى تخفيض الجنيه في كل مرة إلى تخفيض قوته الشرائية، وزيادة تكلفة المعيشة على المواطنين، وتخفيض قيمة الناتج المحلي، ونصيب الفرد من الناتج مقوما بالدولار. تخفيض أسعار الفائدة اعتبارا من العام الحالي يعني أن العائد على المدخرات الذي تحصل عليه ملايين الأسر سوف ينخفض، ربما إلى نصف ما كان عليه في العام الماضي، وهو ما يمثل مشكلة حقيقية لميزانية تلك الأسر.
خلال حقبة الاقتراض من صندوق النقد الدولي (من 2016 إلى 2024) حصلت مصر على ثلاثة قروض بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار تقريبا، لكن الوضع الاقتصادي في نهاية كل قرض كان سيئا بالدرجة التي تطلبت الحصول على قرض جديد بحجة المحافظة على المكاسب التي تحققت في القرض السابق. في عام 2016 حصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار على مدى 3 سنوات. في العام نفسه كانت قيمة الناتج المحلي الإجمالي 351.4 مليار دولار، لكنه تراجع في عام 2019 إلى 317.1 مليار دولار بانخفاض قيمته 33.6 مليار دولار، أي أصبح أقل بنسبة 9.5% عما كان عليه وقت الحصول على القرض. وفي عام 2022 حصلت مصر على القرض الممدد بقيمة 3 مليارات دولار. في تلك السنة كانت قيمة الناتج المحلي الإجمالي 475.2 مليار دولار، لكنه يقدر في العام الحالي بحوالي 347.3 مليار دولار، أي أقل عما كان عليه وقت الحصول على القرض بحوالي 127.9 مليار دولار، بنسبة انخفاض تبلغ 26.9%، وذلك على الرغم من زيادة قيمة القرض إلى 8 مليارات دولار. الآن، علينا أن ننتظر حتى عام 2028 من أجل أن تعود قيمة الناتج إلى ما كانت عليه في عام 2022 !
*بقلم /إبراهيم نوار