أ. د. عواطف عبد الرحمن تتناول موضوع: الشباب والموجة الثقافية للاستهلاك.

أ.د. عواطف عبد الرحمن تكتب :الشباب وطوفان الثقافة الاستهلاكية
لقد منحت الثورة التكنولوجية فى المعلومات والاتصال دفعة قوية للاقتصاد الرأسمالى العالمى المتمثل فى الشركات المتعدية الجنسية والمؤسسات المالية الدولية هؤلاء الكبار الذين استفادوا من التكنولوجيا الاتصالية وسخروها لنشر ثقافة يومية ذات طابع استهلاكى هدفها الأساسى خدمة السوق العولمية من خلال تحويل المنتجات الثقافية إلى سلع تخضع لقوانين السوق و تواجه الثقافة فى ظل العولمة مخاطر عديدة تهدد استقلالها وتميزها إذ أن تحكم منطق الربح فى الإنتاج الثقافى يمنح السوق وآلياتها قدرة متزايدة فى سوق الصناعات الثقافية كما يعطى الثقافة الاستهلاكية المأمركة سيادة وهيمنة غير مسبوقة.
وهناك صلة وثيقة بين هذه الثقافة الاستهلاكية وبين فئات الشباب فقد استطاعت أمريكا منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضى أن تطور صناعة ثقافية واسعة موجهة إلى الشباب داخل أمريكا وخارجها تمثلت فى السينما والموسيقى والدراما التليفزيونية وأصبحت أمريكا اليوم القوة الاقتصادية الرئيسة الوحيدة القادرة على التصدير الفورى لهذه الصناعة لتغطية احتياجات الشباب الثقافية فى مختلف أنحاء العالم فقد أصبحت تسيطر دون منازع على أسواق الاستهلاك الثقافى للشباب فى العالم كله.
ويرى البعض أن انتشار أنماط الثقافة الأمريكية وتغلغلها بين الشباب على النطاق العالمى سواء فى الموسيقى أو المسلسلات أو الأفلام والأكلات السريعة وملابس الجينز يرجع إلى عدة أسباب أولها: هيمنة شركات الإعلان العالمية على التسويق العالمى مما ساعد على صبغ الأذواق والأزياء بالطابع الأمريكى لدى قطاعات كبيرة من بين الشباب.
2- تفوق أمريكا فى صناعة الموسيقى الشعبية والأفلام والمسلسلات وقد تزامن انتشارهم فى الأسواق الخاصة مع ظهور التليفزيون ثم اكتساحهم للعالم فى ظل البث الفضائى من خلال الأقمار الصناعية.
3- تشير الدراسات أن أمريكا لا تصدر إلى الأسواق الخارجية إلا أردأ السلع الثقافية ويرجع ذلك إلى اتجاه الشركات العملاقة ووكالات الإعلان الذين يفضلون ترويج المنتج الثقافى الاستهلاكى ذى الطابع الشعبى التجارى ضماناً للأرباح الهائلة ولا يحرصون على تصدير الثقافة الرفيعة التى لا تلقى الرواج الاقتصادى.
وهناك أسباب خاصة بالثقافة الأمريكية تجعلها قابلة للتسويق أكثر من سواها مثل اليابان وألمانيا أولاً تنوع الأنساق الثقافية التى تتشكل منها أمريكا باعتبارها مجتمع مهاجرين مما حال دون ظهور هوية ثقافية أو حضارية عميقة الجذور للشعب الأمريكى وقد استثمر تجار العولمة هذه السمة بكفاءة حيث استفادوا من الخصائص التى تتميز بها الثقافة الأمريكية سواء التنوع الأثنى والعرقى أو المرونة وسهولة الانتشار وتوافقها مع طبيعة العصر الذى يميل إلى السرعة و السطحية، وهناك عامل آخر هام تتميز به صناعة الثقافة الأمريكية هو تكثيف اهتمامها على الشباب داخل أمريكا مما ساعد على سرعة انتشارها وتأثيرها على الشباب فى المجتمعات الأخرى.
نطرح فى هذا الصدد مجموعة أسئلة مركزية عن الميكانيزمات التى تستعين بها الثقافة الاستهلاكية العولمية فى تشكيل فكر واتجاهات الشباب المعاصر من خلال الثقافات التعويضية للشباب كرد فعل على الضغوط الأسرية والمجتمعية أو المدرسية وتتشكل هذه الثقافات فى إطار مجموعات الأقران وتتجسد فى نمط حياة جماعى يتسم بالهامشية. فالشباب يعانون من وضع اجتماعى ملتبس فهم لم يعودوا أطفالاً ولم يصبحوا كباراً بعد والاختراق الثقافى يستهدف التأثير على الإدراك والسلوك وتنميط الذوق وحصره فى أنماط استهلاكية لأنواع محددة من المعلومات والسلع والترفيه تصبح من خلال التكرار السقف والمثل الأعلى لطموحات الإنسان وتحول دون البحث عن بديل أو الرغبة فى التغيير.ويلوذ الشباب بعالم خاص يخلقونه بأنفسهم وفقاً لمعاييرهم.
ولا شك أن الثقافة الفرعية للشباب والتى أجريت عنها عدة دراسات أمريكية وفرنسية يؤكد فى الأساس وجود قطيعة مع المجتمع وليست جسر عبور إليه، المهم أن هذه الثقافة الفرعية للشباب تحولت إلى سوق استهلاكية استثمرتها الشركات التجارية الكبرى المسيطرة على وسائل الإعلام – يوجد بجانب الثقافة التى تقدمها وسائل الإعلام للشباب ثقافة الشباب أنفسهم وتتمثل فى الإبداعات المهارية والموسيقية و أهم تحدٍ تواجهه ثقافة الشباب لا يتمثل فحسب فى كونها تواجه ثقافة الأجيال السابقة أو تتمحور حول مقولات عقيدية سلفية بل تتعرض إلى مخاطر الاستيعاب والتنميط على مستوى كونى بمعنى أنها مهددة بإفراغها من مضامينها الجوهرية التى تقوم على النقد والرغبة فى التجاوز والتغيير والاستقلالية فى بناء الذات وتتعرض إلى خطر تحويلها إلى ثقافة استهلاكية تستهدف خدمة مصالح السوق والقوى الدولية المهيمنة عليه اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً وإعلامياً.
وفى ظل تصاعد هيمنة الشركات الاحتكارية على وسائل الإعلام الفضائى وشبكات المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية وفى ظل إزالة الحواجز أمام سيولة المعلومات والاتصالات عبر الكون انتقلت البشرية إلى مرحلة الفضاء الافتراضي فلم تعد الجغرافيا تحدد قواعد التجارة والتواصل الإنساني فى مجتمع الإعلام الجديد حيث يسيطر السوق بقيمه وآلياته على مجمل الأنشطة البشرية. وتعتبر الإثارة هى الوسيلة الأساسية التى تستعملها القنوات التجارية لجذب المشاهد وتتخفى وراء هذه المساحات الإعلانية صناعة الرغبات التى تهدف على استقطاب أكبر عدد ممكن من المستهلكين. وتسعى القنوات الفضائية التجارية إلى الوصول إلى أكبر عدد من الشباب عبر برامج التسلية والإثارة. وتركز الفضائيات على أخبار المال والأعمال والبورصات فهل المقصود التثقيف المالى أم المقصود جعل المال هو المرجعية الأساسية عند المشاهد.
وتمثل الرياضة بفضل التحالف التجارى بين الفضائيات وشركات الإعلانات وشركات السلع الرياضية مجالاً خصباً لترسيخ قيم الربح السريع وذلك بإبراز اللاعبين كنماذج مثالية. فلم تعد الرياضة تقاس بالأداء والروح الرياضية العالية بل بأسعار الرياضيين والمساومات بين الأندية لبيع الرياضيين مما جعل هذا المجال يمثل للشباب مجال الخلاص وطريقاً قصيراً للكسب والشهرة.
مجتمع الإعلام الحالى لا تحكمه أيديولوجية سوى أيديولوجية السوق والربح السريع وبلا فكر وبلا موقف. وكما يرى بيير بورديو أن هيمنة ثقافة الربح جعلت من الفضائيات أجهزة لا تفكر حيث يبث التليفزيون والفضائيات من خلال وجبات ثقافية سريعة من العنف الرمزى تتمثل فى برامج العنف والدماء والجنس وحوادث المجتمع المأساوية التى تهدف إلى صرف الانتباه عن القضايا الجوهرية.
فقد أصبح التليفزيون المؤسسة التربوية والتعليمية الجديدة التى تقوم مقام الأسرة والمدرسة بل والجامعة وأصبح الإعلام التجارى عبر الفضائيات قادراً على الوصول إلى الشباب فى كافة أنحاء العالم وهو شديد التأثير فى هذه الفئة بسبب قدراته الخارجية على الإبهار والإثارة علاوة على المصداقية النسبية التى يتميز بها الإعلام الأجنبى مقارنة بتردى الإعلام المحلى المرتبط بالحكومات.
وعبر الإبهار والمصداقية تصبح المادة الإعلامية المقدمة عبر الفضائيات مادة مؤثرة وغير قابلة للنقد. ويسعى مجتمع الإعلام العولمى إلى الترويج لثقافة الحياد وموت الأيديولوجية ويعمل على تسطيح الوعى وإفراغ الثقافة من كل محتوى وطنى وتحررى ويرمى إلى إلغاء العقل وملكة النقد لقد حل الاختراق محل الصراع الأيديولوجي، ويقوم الاختراق على عدة أوهام تتمثل فى وهم الحياد ووهم الخيار الشخصى ثم وهم ثبات الطبيعة البشرية، وأخيرا وهم غياب الصراع الاجتماعي ومعنى ذلك أن الثقافة الإعلامية العولمية الاستهلاكية المتأمركة تكرس الأيديولوجيا الفردية المستسلمة.
ويتلقى الشباب العربي من خلال الفضائيات برامج المنوعات والدراما والإعلانات التى تكرس الثنائية والازدواجية ثقافية فهى تعرض برامج العنف والجريمة والانحراف وفى ذات الوقت تعرض البرامج المتخصصة التى تعتمد على خطاب سهل مباشر يقدمه دعاة شباب مثل عمرو خالد وخالد الجندى ويستقطب الآلاف من الشباب العربى. أن هذا التناقض الذى يتدثر بحجة التنوع إنما هو يكرس الانفصام الذى تعانى منه الثقافة العربية.
ويضاف إلى ما سبق محدودية الإنتاج التليفزيونى والسينمائى العربى وعدم قدرته على شغل مساحة الوقت من ساعات البث مما يضطر الفضائيات العربية إلى بث الإنتاج المصرى القديم أو الاضطرار إلى إنتاج برامج متعجلة ومسطحة أو اللجوء إلى المباريات الرياضية، كما يدفع هذا العجز المحلى الفضائيات العربية إلى استيراد جزء كبير من برامجها من أمريكا وأوروبا وتركيا والهند وقد لا تتفق هذه البرامج فى الغالب مع الأولويات العربية وخصوصيتها، وبالتالى تتحول الفضائيات العربية إلى أداة لخدمة الثقافة الوافدة أو المهيمنة.ولا شك أن تسخير كافة الأنشطة الإنسانية لخدمة مصالح المتحكمين فى السوق قد رفع قيمة الربح فوق كل القيم وأدى إلى تسييد الثقافة الاستهلاكية على حساب الثقافات الوطنية.
وأصبح هناك حاجة أكيدة لإصلاح الدولة وإعادة أولوية السياسة على الاقتصاد، كما أصبح ترابط السياسة بالثقافة شرط ضرورى لمواجهة خطر هيمنة تسليع الأنشطة والقيم والعلاقات الإنسانية وتقع مسئولية هذا الدور على ثلاثة فاعلين أساسيين: هم النخب المثقفة والدولة وفضاءات المجتمع المدنى.
فالشباب العربى فى حاجة إلى القدوة والقيادة الواعية وهذه المسئولية تقع على عاتق المثقفين والمبدعين.
أما دور الدولة فهو يستلزم رعاية الثقافة الجادة ومساندة الإبداع للوقوف فى وجه الثقافة الاستهلاكية، وإذا كانت قوى العولمة والسوق تعتبر الثقافة سلعة تحكمها قوانين السوق فإن الشعوب تعتبر الثقافة هوية وسبب للوجود والاستمرارية.
ولا يمكن أن تنجح الدولة وحدها بل لا بد من منظمات المجتمع المدنى المتمثلة فى الأحزاب والنوادى والجمعيات المتمثلة فى الأحزاب والجمعيات الأهلية والأسرة والمدرسة هى القوى الأساسية القادرة على مواجهة الثقافة الاستهلاكية ويمكن ترجمة ذلك فى إنتاج الدراما والمسلسلات والموسيقى التى تستلهم أفضل مافى التراث العربى دون تناقض مع مستجدات العصر وإصلاح النظام التعليمى وتحريره من المؤثرات الأجنبية وتأسيس نظام تعليمى وطنى.