قصة سيمون: الفتاة التي غنت قبل أن يبدأ الحديث.

قصة سيمون: الفتاة التي غنت قبل أن يبدأ الحديث.

الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر

كان يا ما كان، وبالعصر اللي كان فيه الفن متل الشمس، كل يوم بتشرق من جهة، كانت مصر عم تحضّر لقدوم فراشة رح تغيّر المعنى… ما كانت ملكة جمال، وما كانت وارثة شهرة ولا ألقاب، بس كان عندها شي ما بينحكى… كان عندها حضور، وكان اسمها: سيمون.

بزقاق صغير من زواريب شبرا، الحي اللي بيمزج الروح الشعبية بالمحبة والألفة، خلقت سيمون بـ سنة 1966، بس الغريب إنو من أوّل ما فتحت عيونها، كانوا الكبار يقولوا: “هالبنت فيها شي غير… فيها لمعة غريبة”. كانت تقعد حدّ الشباك وتتفرّج على الناس، تحفظ حركاتن، نغماتن، ضحكاتن، وتغني لحالها بصوت خفيف، متل نسمة بتمرق من تحت الباب.

كانت تحب المدرسة، خصوصًا الحصص اللي فيها تمثيل أو قراءة، وكان عندها موهبة إنّها تحوّل القصص لأدوار… بس الحكاية الكبيرة بلّشت بـ حفلة بسيطة بجامعة القاهرة. تخيّلوا، كانت بس منظّمة للحفلة، عم تركض ورا الكواليس، تتأكد إنو الكراسي مرتّبة، والمايك شغّال، والناس مرتاحة. بس فجأة، صار شي مش متوقّع: مدحت صالح، اللي كان المفروض يطلّ يغني، اتأخر، والناس بلشت تهمس وتتململ، والمسرح عم يبرد…

حدا قال: “ما حدا فينا بيغني؟”، وعيون الكل اتجهت صوب سيمون، اللي كانت واقفة ع جنب المسرح، لابسة جاكيت خفيف فوق فستان جامعي بسيط. قالت بتردّد: “أنا… بعرف غني”. وما حدا نطر، دَفشوها دفشة خفيفة عالخشبة… ومن هون بلّشت الحكاية!

طلعت، مسكت المايك، وصوتها كان متل نقطة ندى نازلة على قلب عطشان… غنّت، وكل شي تغيّر. التصفيق ما وقف، والناس كانت عم تسأل: “مين هي؟”. بـ هديك اللحظة، ساعتها الفنية صارت تشتغل، وما عادت توقف.

بعد الحفلة، بلّشت الأخبار تنتشر، وبوقت قصير صارت “سيمون” إسم ما بيمرق مرور الكرام. أوّل أغنية رسميّة إلها كانت “مش نظرة وابتسامة”… بس الحقيقة؟ كانت أكتر من نظرة وأكتر من ابتسامة، كانت حالة… حالة حب جديدة نزلت بين الناس، وعيّدت قلوب كتار.

وصارت تغني، وتبدع، وتلبس ألوان بتشبّه روحها… خفيفة، راقية، ناعمة، ما كانت متل باقي الفنانات، لا بالشكل ولا بالمضمون. كانت بعيون الناس “المختلفة”… اللي صوتها ناعم بس قوي، بريء بس ذكي، خجول بس متمرّد.

بس مش بس غنّت… لأ، سيمون أخدت الكاميرا بإيدها وقالتلا: “أنا كمان بمثّل”، وفعلاً، أول فيلم بحياتها كان قدّام فاتن حمامة… فيلم “يوم مر… ويوم حلو”، وهون الناس عرفت إنو هالصبيّة مش لعبة نجومية عابرة… لأ، هي فنانة بكل معنى الكلمة.

بس ما وقّفت… بـ سنة 1992، وقفت حدّ عمرو دياب، وغنّوا، ومثّلوا، وضحكوا، وتركوا فيلم “آيس كريم في جليم” كواحد من أيقونات جيل التسعينات. المشاهد كانت بسيطة، بس فيها سحر… وهي، كانت البنت اللي كل حدا بده يعرف عنها أكتر، يسمعها أكتر، يشوفها أكتر.

ومن الفيلم للدراما، دخلت بيوت الناس بأدوار درامية ما بتننسى، متل “زيزينيا”، و”أبو العلا 90″، و”بين السرايات”… ما كانت بتمثّل، كانت بتعيش.

ويا ريت خلصت الحكاية هون؟ لا وألف لا، سيمون فتحت باب المسرح كمان، ووقفت حدّ محمد صبحي، وقدّمت أدوار متل “كارمن” و”لعبة الست”، وكأنّها خُلقت لتغنّي وهي عم تمثّل، أو تمثّل وهي عم تغنّي… كانت لوحة فنيّة متحرّكة، تتحس فيها الرقي، والهدوء، والقوّة بنفس الوقت.

من بعد ما خلّصت سيمون مشهدها السحري على المسرح الجامعي، ومن بعد ما سكّرت القلوب ع نغمة “مش نظرة وابتسامة”، بلّشت توصل لأماكن ما كانت تحلم فيها حتى. كانت بعدا شابة، بس حضورها كان حضور فنانة مخضرمة، من أوّل كلمة، من أول ظهور، بتخلي العين تتبعها والقلب يصفّق بلا وعي.

إجا التمثيل متل دعوة رسمية من القدر، وقاللها: “تعالي يا سيمون، هيدا الدرب إلك”. وما ترددت لحظة… دخلت عالم السينما، أول تجربة قدّام فاتن حمامة، وأي بداية أقوى من هيك؟!
“يوم مر… ويوم حلو”، مش بس كان فيلم… كان اختبار حقيقي، وهي نجحت فيه بإمتياز. الكاميرا كانت بتحبها، بس الغريب؟ الناس كانت بتحسها وحدة منن… مش بعيدة، مش مصطنعة، مش مصنوعة… كانت من لحم وحنان وصدق.

ومن بعد ما غنّت الحب، ومثّلت الحنين، وقفت على بوابة جديدة… بوابة المسرح.
وهون؟ هون طلعت النجمة اللي فيها بشكل كامل.
مع محمد صبحي، واحد من عمالقة المسرح، قدّمت “كارمن” و”لعبة الست”، و”سكة السلامة”، وأبدعت بصوتها وبحضورها وبحركاتها المتقنة. كانت تغنّي على الخشبة وكأنّها ناي، تمثّل كأنّها قصيدة، والناس كلّا واقفة، تتنفّس معها، وتعيش التفاصيل معها، وترجع ع بيوتها وهي بعدها تحت تأثير سحر سيمون.

المسرح خلّاها تكتمل كفنّانة، وهون، بصمتها صارت أوضح، وأقوى، وأعمق.
كانت المخرجة، والممثّلة، والمغنّية، وحتى المصمّمة أوقات، تهتم بكل تفصيل، من الفستان للمايكروفون، من مشية الدخلة، لنبرة النفس.

بس خلف كل هالضوء، كانت إنسانة حسّاسة جدًا… بتحب الخصوصية، وبتخاف على قلبها.
الناس كانوا يسألوا كتير: “سيمون متزوّجة؟ عندها حب؟ عندها قصة؟”، والجواب؟
إيه… تزوّجت، بس بهدوء… بعيد عن الصحافة، بعيد عن العناوين الكبيرة.
زوجها كان الناشط السياسي محمد غنيم، واللي عرفوا القصة بيقولوا إنو حبّون كان بلا ضجيج، بس مليان احترام وشغف.
كانت حريصة تبعد حياتها الشخصية عن الأضواء، لأنو سيمون كانت بتفضّل الفن يكون هو الواجهة، وهو العنوان الرئيسي.

بعصر الـ90ات، صارت أغانيها متل أناشيد صباحيّة…
“بتكلم جد” مع حميد الشاعري، كانت انفجار من الإيقاع، النغمة، الروح…
و”ساعتي مش مظبوطة”، خلّت الوقت يوقف، مش لأنّها تأخّرت، بل لأنّها سبقت عصرها.

كانت صوت بنعومة الصبح وجرأة الليل…
مش نجمة بتتكرر، ولا مغنية عندها صوت وبس، كانت مزج بين الفن والروح والأناقة.

ومع مرور الزمن، الناس توقّعوا إنّها ممكن تغيب…
بس الحقيقة؟ حتى بـ فترات غيابها، كانت موجودة… بصورتها، بصوتها، بحضورها اللي محفور بالقلوب.
رجعت بعدين بـ مسلسلات متل “جراب حوّا”، و”بين السرايات”، ورجعت وقالتلنا: “أنا بعدني هون، وبعدني بحبّكن”.

بهالزمن اللي صار فيه الشكل أهم من الجوهر، والصوت عم يُعدّل ببرامج وفلترات، بقيت سيمون متل الورد البلدي… بتلمع من دون بهرجة، وبتنشق من دون تصنّع.
كانت إذا لبست فستان بسيط، بتحس إنو عم تلبس حكاية، وإذا طلعت بـ جلسة تصوير، بتحوّل الكاميرا لدفتر مذكرات.

كان ستايلها خارج القطيع، هيك متل اللي ما بيحب يقلّد حدا… شعرها، نغماتها، حركاتها، حتى طريقة كلامها… فيها لمعة من الرقي، وخجل من الطفولة، وثقة من اللي اختبر الحياة بس ما تلوث فيها.

كل أغنية من أغانيها كانت بتشبّه حالة.
“مش نظرة وابتسامة”؟ مش بس أغنية حب، كانت صورة سينمائية ناعمة، بتاخدك ع أول لقاء، ع أول خفقة قلب، ع أول رمشة فيها وعد.
“بتكلم جد”؟ كانت مرآة لبنت التسعينات… قوية، واضحة، ومش لعبة بإيد حدا.
“ساعتي مش مظبوطة”؟ كانت متل نغمة لحدا بيعيش بطريقتو، ما بينطر الوقت، الوقت بينطره!

ومع هيك، كانت دايمًا ترفض تصير “سلعة فنية”.
ما شاركت بإعلانات بلا معنى، وما قبلت تطلّ ببرامج تسويقية لمجرد الظهور… كانت بتنتقي إطلالاتها متل اللي بينقّي كلمته قبل ما يحكي.
“أنا فنانة مش تريند”، كانت تقولها بنظرتها حتى لو ما قالتها بحكيها.

وهالاعتزال الجزئي يلي عملتو بفترة معينة، ما كان انسحاب، بل كان تأمل… وقفة وعي… لحظة حقيقية بوسط صخب مصطنع.
رجعت بعدها بمسلسلات متل “بين السرايات”، والناس قالوا: “بعدها متل ما هي، لا تغيّرت ولا بدّلها الزمن”…
لأنو الصدق، ما بيتبدّل، والصوت الحقيقي، ما بينطفي.

وبوسط كل هالمراحل، كانت ديانتها المسيحية موضوع بتطرّقوا فيه ناس كأنو قضية… بس هي؟ ما علّقت، ما برّرت، ما لعبت ع وتر الطائفية.
قدّمت نفسها فنانة لكل الناس، غنّت لكل القلوب، وشاركت بشهر رمضان أكتر من مرة، بمسلسلات روحانية، فيها بعد إنساني راقٍ.
وكانت تقول: “الدين ما بيعرف موهبة، الموهبة من الله، والله واحد بيحب الجمال والحقيقة”.

حتى بزواجها، قرّرت تمشي ع خط غير تقليدي.
ما نشرت صور، ما باعت قصة، ما عمّلت شو.
زواجها من محمد غنيم، كان حبّ حقيقي، بيشبهها… بعيد عن الفلاشات، قريب من القلب.

وكانت، ولا زالت، فنانة بتحترم جمهورها…
ما وعدت يوم إنو تطل كل أسبوع، بس كل ما طلّت، كانت طلّتها عيد.
مش بس لأنو صوتها حلو… لأ، لأنو غيابها بيلخّص معنى الانتظار الجميل.

وراء كل مشهد، كل أغنية، كل ضحكة على المسرح، في إنسانة…
مش بس فنانة عم تقدّم دور أو لحن، بل قلب عم يخفق بحبّ الفن والجمهور والحياة.

سيمون، خلف الكواليس، كانت هادية… رقيقة… بتحترم الوقت والكلمة والحضور.
ما عندها مزاجية نجوم، ولا بتأخّر التصوير لأنو الكوافير ما خلّص شعرها.
كانت بتدخل اللوكيشن وعيونا بتلمع، مش لأنّها بتصرخ أو بتطلب، بل لأنّها بتفرض احترامها بحضورها الهادئ الملوّن بالرُقي.

الناس اللي اشتغلوا معا، بيقولوا عنها:
“سيمون بتعامل كل طاقم العمل وكأنهم شركاء مش مساعدين، من أصغر عامل لأكبر نجم، بتحترم الكل، وبتمشي ع المبدأ يلي بيقول الفن الحقيقي بيبلّش بالتواضع.”

كانت إذا شافت وجه جديد بالتصوير، ما بتتجاهلو، بتسألو:
“إنت شو اسمك؟ مبسوط بالشغل؟ ناقصك شي؟”
وهالسؤال البسيط؟ بيكفي ليخلّي أي شاب أو بنت بأول الطريق، يحسّ إنو الحلم ممكن، وإنو الفن مش بس شهرة… هو كمان إنسانية.

وإذا بتسأل الناس عنها بالوسط؟ بيقولوا:
“سيمون مش بس صوت بيغني، هي مدرسة بالإحساس، بالإلتزام، وبالجدّية يلي نادرة اليوم.”

والمضحك؟ إنو برغم إنّها بعيدة عن السوشيال ميديا وعن العناوين النارية، الجيل الجديد بعدو بيحبها، وبيغني أغانيها، وبيقلّد ستايلها…
صار في فيديوهات على TikTok وInstagram عم تنشر نغماتها القديمة بإحساس جديد.
بنات صغيرات بيرقصوا ع “بتكلم جد”، وبيعملوا “ريمكس” لـ “ساعتي مش مظبوطة”، وكأن الزمن رجع بسحر ناعم…

بس السؤال الحقيقي يلي الكل عم يسألو:
هل سيمون ناوية ترجع بألبوم جديد؟ أو بعمل غنائي بيحمل توقيعها ودفا صوتها؟
الإشارات خجولة، بس الحب كبير…
في جمهور بينتظر، وأمنية معلّقة بسماء الفن، بتقول:
“رجعي يا سيمون، لأنو الموسيقى بعدها محتاجة صوت صادق، مش مصنّع… وبعدها مصر والعالم العربي محتاجين فن فيه أخلاق وجمال ومضمون.”

وفي عيد ميلادها؟
ما فينا غير نقول، إنو الفن احتفل قبلنا، لأنو ولدت فيه وحدة من أنظف وأجمل وأصدق الأصوات…

قبل الشهرة، قبل الأضواء، قبل مسرح محمد صبحي، قبل الكاميرا، قبل كل شي…
في بنت صغيرة كانت تمشي بشوارع حي شبرا، حاملة دفتر موسيقى بدل دفتر رسم، وبتسمع الأغاني من شباك الجيران كأنها كنز نازل من السما.

سيمون فيليب… اسم صغير، بس بداخله شغف كبير.
كانت تحب المدرسة، بس أكتر شي كانت تحب اللغة الفرنسية، لأن فيها نغمة، فيها لحن، وفيها حلم بالسفر جوّا الأغنية.
وتخرّجت فعلاً من كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية، بس حبها الحقيقي كان للمايكروفون مش للسبورة.

كانت تشتغل منسقة حفلات بالجامعة، بتزيّن، بتنظّم، وبتحضّر الجو، متل النسمة اللي بتمرّ بين الكواليس.
بس بيوم من الأيام، تأخر المغني اللي لازم يطلع، والمدرج مليان، والناس عم تتململ…
قامت سيمون، قالت جملة بسيطة غيّرت حياتها:
“إذا بدكن، فيني غني شي مؤقّت لحتى ييجي المطرب…”

وهي اللحظة؟ كانت متل شرارة بتفتح باب القدر…
ما إن وقفت وغنّت، حتى الجمهور وقف كلو… مش لأنو عرفها، بل لأنو أحسّها.
ومن هون، بلّشت الرواية…
الرواية يلي فيها الحب مش بس غرام، بل حب الحياة، الفن، الشغف، والخطوة الجريئة.

من أول ما دخلت عالم الغناء، ما عملت متل غيرها.
ما غنّت المستهلك، ولا اختارت الكلمات العادية…
اختارت أغاني تشبهها: ذكية، صادقة، فيها دفشة، بس فيها خجل كمان…
واشتغلت مع الكبار، من حميد الشاعري ورفاقه، وكانت دايمًا اللمسة الخاصة بكل مشروع.

لما اتجهت للسينما، كانت بتخاف، بس متحمسة…
أوّل فيلم كان “يوم مر… ويوم حلو”، واللي وقف حدّها فيه كانت فاتن حمامة، الأسطورة.
تخيّل… أول دور، وأول مشهد، وأنت حدّ عيون مصر.
وبدل ما ترتبك، قدمت أداء خلا كل الناس تسأل:
“مين البنت دي؟ شو هالطاقة؟ شو هالنعومة؟ شو هالصدق؟”

ومن بعدها، فاتت بقلوبنا بـ “آيس كريم في جليم”، و”زيزينيا”، و”أبو العلا”، وصولاً لـ “بين السرايات”، و”جراب حواء”، وحتى المسرح، كانت فيه أميرة.

وفي يوم عيد ميلادها…

نحنا ما عم نحتفل بعمر، نحنا عم نحتفل بصوت غيّر شكل التسعينات،
بشخصيّة قدّمت نموذج راقٍ للفنّانة الذكيّة، المتواضعة، المهنيّة، وبروح حافظت على نفسها وسط عواصف الشهرة.

نحنا عم نحتفل بـ سيمون…
اللي غنّت قبل الوقت ما يبلّش يحكي، واللي كلنا، حتى الجيل الجديد، بعدنا منغنّي معا:
“مش نظرة وابتسامة… ده كلام من القلب كلام”
ومن القلب، من قلوبنا كلنا… من المحبين، من الفنانين، من البنات اللي تقلدوها، من الشباب اللي كبروا على صوتها،
من الشوارع، ومن البيوت، من خشبة المسرح، ومن كواليس الذكرى…

كل سنة وإنتِ نجمة… ونجمتِك ما بتطفي.

ظهرت المقالة حكاية سيمون.. البنت اللي غنّت قبل الوقت ما يبلّش يحكي أولاً على جريدة الصوت المصرية.