لحظة عبور الأرض من خلال ثقب أسود – نظرية علمية عن السفر عبر الزمن – “مذهل في عالم الفراغ..!”

الدكتورة جعدوني حكيمة
كان الكل منشغلا في جلسة شرود،
في روعة ذلك التأمل الذي امتلأت به السماء الرحيمة.
مرت وهلات كثيرة شعر فيها الكل بشيء يخترق الإحساس وينتشله من السكينة إلى التشويش. وما إن بدأ الاستفهام يختلج الصدور حتى فتحت بوابة الجحيم، التي اكتسحت عنان السماء، كانت تقذف بأصوات مرعبة تشتعل في الجو الذي تحول في طرفة عين إلى صفحة ملتهبة بالحُمرة، تكاد تحرق بصر كل من لاح بنظره صوبها.
بدأت تلك الأصوات تغزو الأرض شيئًا فشيئًا، بسرعة مسرطنة وهجم لم يشهد له قاطنو الأرض مثيلا. وما إن مرت لحظات قليلة حتى اكتسى مأوى البشر غلافا خانقا يملي الجنبات بصَرَخات مهولة ثاقبة لطبول أذن المسامع ونبرات مخيفة؛ حولت الصمت إلى ضجيج ووحشية شنيعة، لم يُسلم من افتراسها شيء على وجه الكون.
قتال في كل مكان أدى إلى تشويه ملامح البراءة والود التي اتصفت بها الحياة في سابق الزمان. تسرب إلى الأنفس حقد عميق فرق بين الأحبة والخلان، فتلاشت غمرة الوئام حياله ولم يتبقَّ للسلام عنوان بين الناس غير الدمار والتشتت والتيه.
لقد غادرت المحبة القلوب، وأخذ مكانها الكره الذي تفشى بين الناس بشكل عنيف لا يُصد ولا يُحتمل. انتشر في الأرجاء خوف عميق جعل كل الكائنات التي بقي في لبها بصيص صحة وسلامة؛ تهرب نحو الأنفاق المدفونة في الأرض.
في حين كان لأصوات الشر المطلق صخب على مسامع البشر يفوق كل الأبعاد؛ لم يُسمح لكثير منهم أن يسدوا آذانهم عنه، فلذلك قرروا الحفر والحفر حتى لا يسمحوا له باختراق مسامعهم مطلقا. فمنهم من فضل أن يفقد سمعه على أن يبقى حبيس تلك الصرخات المرعبة، ومنهم من كان يهب نفسه للموت تضحية من أجل الخروج إلى السطح لجلب قوت أبنائه وزوجته.
ولكن اندلاع الشر لم يترك لأحد المجال للتضحية، فيعود إلى الكهوف فقط صوت أنين الآباء وهم يصارعون شدة الفتك الرهيبة.
ومن بين تلك الألباب العاجزة والهاربة، خرجت للوسط قوة وفراسة من نوع آخر. كان شخص لا يهاب شيء، يمتلك حنكة وخفة ورشاقة، واعداده تعبر بفكره كل شيء حتى تخاله عابرا للزمن. امتلك فطنة عالية وعلما نافعا، تخشع روحه في نعيم الصفاء ونقاء الفاضلين. كانت له شجاعة خارقة عن المألوف، يعتنق زمام القوة وينفي عنه الضعف من سجلات وجوده. بادر للخروج إلى السطح ومواجهة المجهول للحصول على تفسير لما يحدث، فلم يكن يستهوِيه الجلوس على حجر ساكن وهو ينظر بتمزق الأسف على ما يصيب العالم؛ فقرر القتال حتى آخر نفس.
خرج من كهفه في وقت تزامن واستمرارية الوحشية وتآكل أرضية الاستقرار، حيث رأى بأم عينيه كيف تموت جذور الأشجار في لمح البصر، ونظر إلى الهواء وهو يتلوى في باطن السماء من شدة السموم كغريق في التبن،
راح يقلب فتيت الأشجار الذي أصبح كالدقيق، وهو يحمل عيناتٍ منه ويشُمّها ليعرف نوع السمية التي توغلت فيها. بين الحين والآخر كانت التربة تهوي به بسبب ضعفها وفقدانها التماسك الذي كانت عليه قبل الفاجعة. لذلك كان يسقط مرات عديدة فوقها، فيتلطخ جسده بمواد حارقة تفتك مسامات جسده وتأكل منها ببطء. كان يحس باختناق يتبعه في كل مكان، فيتولد في جعبته المزيد من المقاومة. لم يكترث الرجل رغم تفاقم الأذية، وأكمل مسيرة بحثه وتحليلته وهو يدون في كتابه دون توقف معلومات مختلفة. أصابته الدهشة من تشبثه المستمر.
هناك شاهد كيف تعنّفت “قوة الشر والخير”، وهو يراقب بتمعّن وارتجاف وخوف يحيط به الشجاعة والثبات. كان مذهولًا تمامًا من تلك القوة الحمراء التي تبتلع بأنانية زرقة النور وتجلبه إلى بوابة خيالية مدهونة بطلاء لاهبي، ويسمع صرخات أرواح تتعذب؛ من أطفال وشيوخ ونساء ورجال، ويرى وجوهًا تتشوه ملامحها من حرارة لفح الشر، وأيدي مقيّدة تسيل منها دماء غزيرة..
شعر بالتذمر العاجز أمام سطو الشر على الخير، فوقف يدون بقدر عجزه كل ما رأته عيناه من ظلم واستبداد. فتمكنه جبروت الحنين للماضي، وهو يخط آخر أنفاسه دون استسلام لسواد خيبته.
تأمل جيدًا ذلك الكتاب، وجثا على قدميه ينظر للسماء التي أصبحت جمرة رعدية فوق رأسه العالق في التفكير. كان يناجي رحمة مدفونة وراء تألمه الذي أصبح واضحًا. نبراته الضعيفة تكاد تندلع في نفسه كالبرق الخاطف، وخاطرته المتكسرة وجلت أمام يأسه الفارط.
فجأة تجاذبت معالم الوقت، وأخذت تتشكل قوته من جديد. حيث استنار جهده وفطنته، وبدأت تتوهج أعماق روحه. ليفتح عينيه على أمل للقاء الحل بين سطور تفسيراته.
وفعلًا رأى بعين التدقيق ما حدث لبلده الكون، إذ تناثرت أمامه أسباب ونتائج وحلول تثمن قيمة ما يحمل بين يديه. تملكته فرحة لا توصف وحبور يقتات من السعادة أشهى المشاعر.
لكن سرعان ما تدفق كل ذلك في وادي الأمة التي بدأت تجتاح كيان روحه،
كان عزاؤه الوحيد هو استسلامه لجنود المنية. لكنه قرر أن يخفي ذلك الكتاب ويقتل سره معه، كي لا يتمكن أحد من قراءته؛ فيكيد في الأرض مثلما تجبّر هذا الذي أمام عينيه.
دفع نفسه بخطوات منهكة، محاولًا الميل والسقوط من أعلى قمة مباشرة نحو عمق البحر. جعل الكتاب يأخذ مستقرًا تحت بطنه، والتصق به جيدًا على شكل دائري. وإذا به يتدحرج نحو الضفة برشاقته المعتادة، حتى استطاع رمي نفسه، فسقط كالسهم من علو شاهق جدًا.
كان البحر هو آخر من يرى جثته.
فالقوة التي ارتطم بها جسده مع الماء فككته لأشلاء ارتتمت على صحن البساط الأزرق كطعام لأرواح الأسماك. وآخر من لمسه هو “الكتاب”، الذي غاص إلى الأعماق بفعل سرعة الهبوط ولثقل أسراره.
استقبلته أتربة الأعماق بحفاوة، ولم تقصر الطحالب السميكة في إخفائه.
وكأنها تلقت رسالة من “الرجل الأخضر” كي تعمل على مسح “أثر الكتاب” من الوجود.
شارك