الشارع الأمريكي يشهد توتراً مجدداً: هل سيفقد ترامب دعم الشعب كما فقد احترام الديمقراطية؟

الشارع الأمريكي يشهد توتراً مجدداً: هل سيفقد ترامب دعم الشعب كما فقد احترام الديمقراطية؟

بقلم: الجيوفيزيقي محمد عربي نصار

من جديد، تعيش الولايات المتحدة الأمريكية لحظة شديدة التوتر، مع تصاعد المظاهرات في كاليفورنيا ولوس أنجلوس وتهديدها بالانتشار في باقي الولايات. وعلى رأس المشهد يقف الرئيس الحالي دونالد ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض في يناير 2025 بعد فوزه بولاية ثانية، ليجد نفسه أمام موجة غضب شعبي تهدد ليس فقط الاستقرار، بل أيضًا شرعية قيادته.

لكن، هل ما يجري هو مجرد تظاهرات موسمية؟ أم أنه نتيجة مباشرة لمسار طويل من التوترات، بدأ عندما رفض ترامب نتائج انتخابات 2020؟

في هذا المقال، نعيد قراءة المشهد من لحظة فشل ترامب في ولايته الأولى، إلى عودته للسلطة، وتحولاته من رئيس يعادي المؤسسات إلى قائد يواجه الشارع.

رفض الاعتراف بالهزيمة: بداية أزمة الديمقراطية الأمريكية

في نوفمبر 2020، خسر دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن. ورغم فوز بايدن بأغلبية الأصوات الشعبية والمجمع الانتخابي، رفض ترامب الاعتراف بالنتيجة، مدّعيًا وجود تزوير واسع النطاق.

ما تبع ذلك كان سلسلة من المحاولات القانونية والإعلامية لتغيير النتائج، باءت جميعها بالفشل. أكثر من 60 محكمة، بما في ذلك المحكمة العليا، رفضت الطعون لعدم كفاية الأدلة. ومع ذلك، استمر ترامب في إنكار الهزيمة، ما أدى إلى انقسام غير مسبوق في الشارع الأمريكي.

ولعل اللحظة الأخطر في تلك المرحلة تمثلت في اقتحام مبنى الكونغرس (الكابيتول) في 6 يناير 2021، أثناء جلسة التصديق على نتائج الانتخابات. الآلاف من أنصار ترامب اقتحموا المبنى، مدفوعين بخطاب تحريضي مباشر من الرئيس نفسه. مشهد صادم هزّ صورة الديمقراطية الأمريكية عالميًا.

لاحقًا، وُجهت لترامب تهمة التحريض على العصيان، وتم عزله سياسيًا للمرة الثانية، لكنه نجا من الإدانة بسبب دعم غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ. إلا أن الجدل حول احترامه للقانون بقي قائمًا حتى بعد مغادرته البيت الأبيض.

عودة ترامب إلى السلطة: انتصار انتخابي أم استفزاز ديمقراطي؟

بعد أربع سنوات من الغياب، عاد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، بعد فوزه على خصمه الديمقراطي في انتخابات شهدت نسبة مشاركة غير مسبوقة، خاصة في ولايات متأرجحة. لكن هذه العودة لم تُقابل بالترحيب من الجميع.

فبينما يرى أنصاره في فوزه “استعادة لأمريكا الحقيقية”، ينظر إليه معارضوه كعودة رجل لم يحترم قواعد اللعبة الديمقراطية من قبل، ويخشون تكرار سيناريو الفوضى.

وفي هذا السياق المتوتر، لم يكن مفاجئًا أن تنفجر الاحتجاجات مجددًا في الشوارع، وبصورة أوسع مما كان متوقعًا.

المظاهرات تشتعل: كاليفورنيا ولوس أنجلوس أولاً

بدأت الشرارة في لوس أنجلوس، ثم امتدت إلى سان فرانسيسكو وسان دييغو، مع دعوات حاشدة للخروج في تظاهرات سلمية ضد ما وصفوه بـ”التوجه السلطوي” لإدارة ترامب.

المحتجون استخدموا أساليب متقدمة لحماية أنفسهم من قمع القوات الخاصة والحرس الوطني:

ارتداء نظارات السباحة الواقية.

استخدام كمامات محشوة بالخل أو الليمون للتقليل من آثار الغاز المسيل للدموع.

البث المباشر لتوثيق الانتهاكات.

الاعتماد على تكتيكات الكر والفر لتجنب المواجهة المباشرة.

أما السلطات، فقد ردّت بإرسال وحدات من الحرس الوطني، وهو ما قوبل بانتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان. تصريحات ترامب التي برّر فيها نشر الحرس الوطني بقوله: “لولاهم لتمّت إبادة لوس أنجلوس بالكامل”، فُسّرت على أنها تصعيد خطير وتجاهل لحق التظاهر.

الاحتجاجات في طريقها للانتشار: إلى أين تتجه أمريكا؟

المؤشرات الأمنية تشير إلى أن المظاهرات قد تنتقل سريعًا إلى ولايات أخرى، خاصة نيويورك، تكساس، جورجيا، ميشيغان وأريزونا، وهي مناطق ذات ثقل سكاني وتنوع سياسي واجتماعي كبير.

إذا اتسعت رقعة الاحتجاجات، فإنها قد تتحول من مجرد مظاهرات حقوقية إلى موجة غضب وطني، ربما تكون الأوسع منذ أحداث جورج فلويد في 2020. هذه المرة، القضية ليست فردًا قُتل ظلمًا، بل شعب يرى أن النظام نفسه بات مهددًا.

صراع الأحزاب: من الشارع إلى البيت الأبيض

ما يجري ليس مجرد احتجاجات، بل انعكاس لصراع أيديولوجي عميق بين الحزبين الرئيسيين.

الجمهوريون بقيادة ترامب يعيدون إنتاج خطاب “القانون والنظام”، ويطرحون أنفسهم كحماة الدولة في وجه “الانفلات المدني”.

الديمقراطيون، وفي مقدمتهم السيناتور إليزابيث وارن والنائب ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، يتحدثون عن “واجب دستوري لحماية حرية التعبير”، مع التحذير من “نزعة استبدادية” تتصاعد في الدولة.

هذا الصراع بدأ ينعكس داخل المؤسسات الفيدرالية، وهناك مخاوف من دخول FBI ووزارة العدل في حالة انقسام سياسي.

لكن ما زاد الطين بلة، هو تلميح ترامب إلى “اعتقال حاكم كاليفورنيا” بتهمة تقويض الأمن، وهو تصعيد كلامي غير مسبوق في الخطاب الرئاسي الأمريكي.

العرض العسكري في 14 يونيو: احتفال أم تحدٍّ؟

من المقرر إقامة عرض عسكري في 14 يونيو بمناسبة عيد ميلاد ترامب، والذي أصبح طقسًا سياسيًا أكثر منه احتفالًا شخصيًا. لكن هناك تساؤلات حقيقية حول مدى عقلانية إقامة مثل هذا العرض في ظل حالة الغضب الشعبي.

وزارة الدفاع لم تؤكد حتى اللحظة قرار الإلغاء أو المضي قدمًا، إلا أن تسريبات من داخل البنتاغون تشير إلى وجود تحفظات حقيقية، خصوصًا إذا تصاعدت الاحتجاجات أو وقعت مواجهات دموية.

إلغاء العرض سيكون أول ضربة معنوية كبيرة لإدارة ترامب في ولايته الثانية، وسيحمل دلالة سياسية كبرى في نظر خصومه.

هل احترم ترامب القانون؟

منذ خسارته في 2020، ظل سؤال احترام ترامب للقانون والدستور محل جدل واسع. صحيح أنه لم يُدان جنائيًا حتى الآن، لكن:

رفضه الاعتراف بالهزيمة.

الضغط على مسؤولي الولايات لتغيير النتائج.

خطابه التحريضي يوم اقتحام الكونغرس.

كلها مؤشرات على أن ترامب تصرّف كرئيس فوق القانون، وهو ما يزيد من مخاوف معارضيه في ولايته الثانية.

حتى اللحظة، هناك تحقيقات جارية في عدد من الولايات، منها جورجيا، تتعلق بمحاولات قلب نتائج الانتخابات. ويُتوقع أن تستمر هذه القضايا القضائية خلال سنوات حكمه الجديدة، مما يُبقي شرعيته في مرمى النيران.

الخاتمة: هل تعود أمريكا إلى رشدها؟

تعيش الولايات المتحدة اليوم اختبارًا حقيقيًا لديمقراطيتها، ليس فقط في مواجهة رئيس مثير للجدل، بل أيضًا أمام سؤال جوهري: هل يمكن لنظام سياسي أن يصمد حين يُعاد انتخاب من لم يحترم قواعده؟

المظاهرات الجارية ليست مجرد غضب شعبي، بل إنذار أخير لمؤسسات الدولة بأن الصبر الشعبي له حدود. ترامب يواجه الآن معركة الحفاظ على النظام، لكن المفارقة أن الكثيرين يرون أن وجوده نفسه هو ما يُهدد النظام.

ما ستشهده أمريكا في الأسابيع المقبلة قد يُحدّد مصير ولايته الثانية، وربما مصير الديمقراطية الأمريكية ذاتها.