الشيخ سليمان الجوسقي: الأعمى الذي واجه نابليون باسم الأمة

الشيخ سليمان الجوسقي: الأعمى الذي واجه نابليون باسم الأمة

بقلم: أشرف ماهر ضلع

في زمنٍ تكالبت فيه الجيوش الغازية على أرض مصر، وفي قلب العتمة التي فرضها الاحتلال الفرنسي، بزغ نورٌ من أعماق الظلام، قادماً من أعين لا ترى… لكنه أبصر ما لم تبصره جيوش. إنه الشيخ سليمان الجوسقي، الفقيه الأزهري الكفيف، والرمز الوطني الخالد الذي قال كلمته في وجه الغاصب:
“معذرة يا بونابرت… هذه ليست يدي، هذه يد الشعب!”

وُلد الشيخ في منطقة “جوسق” بمحافظة الشرقية، وحُرم نعمة البصر، لكن الله أودع في قلبه بصيرة نافذة لا تعرف التردد. التحق بالأزهر الشريف، وتفوق في علومه، رغم إعاقته البصرية، وكان أهله يطمعون في علمه، لكنه فاجأهم بشجاعة تفوق العلم، وحكمةٍ تقود الرجال.

حين اندلعت ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر 1798 ضد الحملة الفرنسية، لم يتردد الجوسقي في اعتلاء المنابر ليخطب في الناس، يحثهم على المقاومة، ويزرع فيهم بذور الأمل والثبات، وقال كلمته الخالدة:
“إنكم بشرٌ مثلهم، فاخرجوا إليهم… فإما أن تبيدوهم أو يبيدوكم!”

لم يكتفِ بالكلمات، بل جيَّش طائفة العميان، التي كان يرأسها، فجعل منهم عيونًا للوطن، وجنودًا في الظل، ينقلون الأخبار من معسكرات الفرنسيين إلى صفوف المقاومة، ويغتالون جنود الاحتلال في الليل، حين يخرج السكارى من الحانات. كانوا لا يبصرون، لكنهم كانوا يرون مصر، ويحمونها.

وبثروته، جهّز المتاريس، واشترى السلاح، وكان يجوب القاهرة على حماره، يتفقد الحصون ويأمر بتوزيع المؤن والسلاح، يُنفق عن سعة، ويزرع العزيمة حيثما حلّ.

وحين علم نابليون بونابرت أن الشيخ الجوسقي هو العقل المدبر لعمليات الاغتيال، قرر اعتقاله. لكنه لم يكن يتوقع ما حدث بعد ذلك. فقد قدَّم إليه العروض تلو العروض، حتى عرض عليه أن يُولّيه سلطانًا على مصر! فأظهر الشيخ القبول، وابتسم في خبث، ومد يده لمصافحة القائد الفرنسي… ثم فجأة، رفع يده الأخرى وصفعه صفعة دوَّت في كتب التاريخ، وقال:
“معذرة يا بونابرت، هذه ليست يدي… هذه يد الشعب!”

فغضب نابليون، وأمر بإعدامه، رغم وساطة العلماء، وتم إلقاء جسده الطاهر من فوق قلعة القاهرة… ليسقط الجسد، وترتفع روحه إلى بارئها، شهيدًا على درب الحرية.

سجل الأديب علي أحمد باكثير هذا المشهد في مسرحيته الشهيرة “الدودة والثعبان”. لكن الأهم أن يسجله التاريخ في وجدان الأمة، وأن تُروى سيرة هذا الرجل لأبنائنا، ليتعلموا أن الكرامة لا تحتاج إلى بصر، بل إلى قلب لا يعرف الانكسار.

رحم الله الشيخ سليمان الجوسقي، ورحم كل من دفع حياته حبًا وإخلاصًا لهذا الوطن.

ظهرت المقالة الشيخ سليمان الجوسقي… الكفيف الذي صفع نابليون باسم الشعب أولاً على جريدة الصوت المصرية.