HS2: القطار الذي ابتلع الملايين.. فضيحة تهز أضخم مشروع للبنية التحتية في المملكة المتحدة

HS2: القطار الذي ابتلع الملايين.. فضيحة تهز أضخم مشروع للبنية التحتية في المملكة المتحدة

منذ أن أعلن عنه عام 2010 كمشروع رائد لربط لندن بمدن الشمال عبر خط سكك حديدية عالي السرعة، لم ينج مشروع HS2 من الجدل.

واليوم، وبينما يتم تركيب أول منصة ركاب في محطة أولد أوك كومون في لندن، فإن المشروع الذي كان من المفترض أن يُحدث ثورة في النقل البريطاني بات يقدم كمثال على سوء التخطيط والإدارة الحكومية.

ورغم التقدم الملحوظ في مواقع البناء، خصوصا في غرب لندن، إلا أن صورة HS2 العامة لم تتحسن، لا سيما بعد تقرير لاذع صدر عن لجنة الحسابات العامة في البرلمان البريطاني وصف المشروع بأنه “نموذج لما يجب تجنبه في المستقبل عند إدارة مشاريع البنية التحتية الكبرى”.

مشروع مشوب بالجدل منذ انطلاقه

ومنذ إعلان المشروع في عام 2010 من قبل وزير النقل السابق فيليب هاموند، واجه HS2 جدلا مستمرا بسبب تصاعد التكاليف، والتأخيرات المتكررة، وتقليص النطاق الزمني والجغرافي.

ومن أبرز ما أثار الجدل كان إنفاق 100 مليون جنيه إسترليني على نفق لحماية الخفافيش، في وقت يواجه فيه المشروع انتقادات بخصوص أولوياته وجدواه الاقتصادية.

والآن، ومع بلوغ التكاليف المتوقعة عتبة 80 مليار جنيه إسترليني، يُنظر إلى المشروع باعتباره نموذجا للفشل في إدارة المشاريع الكبرى، لا سيما بعد الحكم القضائي الأخير الذي عزز الاتهامات بعدم الشفافية والتحايل الداخلي.

محطة أولد أوك كومون: إنجاز رمزي وسط فوضى الإدارة

لقد كان الإعلان عن تركيب أول منصة ضمن محطة أولد أوك كومون، والتي ستضم ست منصات لقطارات بطول 400 متر، محاولة من إدارة HS2 الجديدة لإظهار تقدم ملموس وسط الانتقادات المتصاعدة.

ويُعد هذا الإنجاز مؤشرا على انتقال المشروع من مرحلة الإنشاء إلى التنفيذ، وهو ما عبر عنه مسؤولو HS2 بأنهم “يتقدمون رغم العواصف”.

لكن هذا التقدم يأتي في وقت بالغ الحساسية، إذ يُخضع المشروع لمراجعة وطنية شاملة بقيادة مارك وايلد، الرئيس التنفيذي الجديد المعروف بإنقاذه لمشروع “إليزابيث لاين”.

مارك وايلد: مهمة إنقاذ وسط حطام مالي

وقد عين مارك وايلد لإعادة ضبط المسار بعد سنوات من التخبط الإداري والإنفاق غير المنضبط. وقد بدأ بخطة جذرية لمراجعة العقود، وتقليص التكاليف، وتعزيز الرقابة على الأداء.

ووفقا للبيانات الرسمية، فإن التحول الثقافي الذي يسعى إليه يهدف إلى ضمان أن تصبح الشفافية والمساءلة جزءا من نسيج المشروع.

وأكد وايلد أن “أخطاء التعاقدات السابقة حمّلت دافعي الضرائب عبء المخاطر”، وأنه يعمل حاليا على تصحيح تلك الاختلالات البنيوية.

كريسويل وفجوة الحماية القانونية للمبلّغين عن المخالفات

وفي موازاة إعادة الهيكلة، كشف الحكم القضائي في قضية ستيفن كريسويل، المستشار الذي حصل على تعويض قدره 319,070 جنيها إسترلينيا، عن انهيار ثقافي داخل HS2 يتضمن إسكات الأصوات المهنية المنتقدة، بحسب صحيفة “ديلي ميل” البريطانية.

وكان كريسويل قد أبلغ عن “تحريف متعمد” لتكاليف المشروع، لكنه واجه تجاهلا وتحفظا، ثم طُرد من عمله. وقال للمحكمة إنه يرى أن “الاحتيال قد ارتكب”، مشيرا إلى أن إخفاء المعلومات عن صناع القرار للحصول على تمويل هو جريمة في حد ذاتها.

ولم يكن حكم المحكمة مجرد إنصاف فرد، بل كان إدانة صريحة لنظام إدارة يفتقر للحماية القانونية للمبلغين عن المخالفات في المشاريع العامة.

HS2 يرد: “نرفض مزاعم الاحتيال والمشروع تحت قيادة جديدة”

وفي بيان رسمي، أكدت شركة HS2 المحدودة أنها “لم تقبل ادعاءات الاحتيال التي قدمها كريسويل”، لكنها أقرت بأنها الآن تعمل تحت قيادة جديدة تُركز على تحسين كفاءة المشروع ومساءلة داخلية أكبر.

ورغم ذلك، لم يُقدم البيان أي توضيحات بشأن التحقيقات الداخلية أو مدى مساءلة أي من المسؤولين المتورطين في القضية.

ثقافة الإنكار والشفافية المفقودة

واتهم كريسويل في مقابلة مع صنداي تايمز إدارة HS2 باستخدام “نهج كلاسيكي لإخفاء التكاليف الحقيقية بهدف إبقاء التمويل الحكومي قائما”، وهو أسلوب مكرر في مشاريع مماثلة ممولة من الخزينة العامة.

وأكد أن الإدارة تفضل الحلول السياسية السريعة على المعالجة الشفافة للمخاطر الفنية والمالية، ما أسفر عن مناخ مؤسسي يُقصي المعارضين بدلا من الاستفادة من خبراتهم.

لجنة الحسابات العامة: “غياب رؤية، وتقديرات متناقضة، ومخاوف بلا إجابة”

وفي تقريرها الصادر فبراير الماضي، انتقدت لجنة الحسابات العامة المشروع بشدة، مؤكدة أن الحكومة ووزارة النقل وHS2 المحدودة أخفقت في توفير تقديرات دقيقة أو خطة تنفيذية واضحة.

وأشارت إلى أن تكلفة المشروع، التي كانت مقدرة بين 45 و54 مليار جنيه إسترليني، قد تصل إلى 80 مليار جنيه بعد احتساب التضخم، وهو رقم ضخم مقارنة بالتقليص الكبير في نطاق المشروع، وفقا لصحيفة “الجارديان” البريطانية.

ومن أبرز الانتقادات في التقرير؛ غياب خطة واضحة لمحطة يوستون، المحطة النهائية للمشروع في لندن، وتكرار تدخلات حكومية أضرت بسير المشروع بدلا من دعمه، علوة على تقليص نطاق المشروع من ربط لندن بمانشستر وليدز إلى مجرد ربط لندن وبرمنجهام، ما عد “خسارة استراتيجية”.

جدل سياسي متصاعد: هل يعيد حزب العمال تقييم المشروع؟

وفتحت الانتقادات الباب أمام دعوات سياسية لإلغاء المشروع تماما. فعدد من النشطاء والمعلقين طالبوا حزب العمال بإعادة النظر في موقفه من HS2، خصوصا في حال تشكيله الحكومة المقبلة. ويقول المنتقدون إن استمرار دعم المشروع في ظل كل هذه الثغرات يشكل مخاطرة سياسية واقتصادية كبرى.

اقرأ أيضا.. تحت شوارع باريس.. سراديب الموتى تروي قصة ستة ملايين هيكل عظمي

وزارة النقل تدافع: قيادة جديدة وخطط إنقاذ

وزارة النقل البريطانية من جهتها دافعت عن المشروع، معتبرة أن ما حصل من تجاوزات مالية كان “غير مقبول”، لكنها أكدت أن تعيين وايلد وتنفيذ خطة جديدة يهدفان إلى ضبط الوضع وتقليل الخسائر.

أما مجموعة موردي المشروع، فقد عبرت عن قلقها من التدخلات الحكومية المتكررة، معتبرة أنها تزيد من التأخير والتكاليف وتخلق حالة من عدم الاستقرار تمنع التقدم الفعال.

هل ما زال هناك أمل؟

ورغم هذه التحديات العميقة، يرى البعض أن وجود شخصية مثل مارك وايلد على رأس المشروع قد يبعث الأمل في إعادة المشروع إلى المسار الصحيح. فنجاحه السابق في مشروع كروسريل يمنحه قدرا من المصداقية.

لكن بوجود فجوات تمويلية، وشكوك سياسية، وفضائح متكررة، يبقى مستقبل HS2 معلقا بين الطموح والتعثر، وربما يستخدم لسنوات كمثال دراسي في كليات الإدارة حول “كيف لا تدار المشاريع الكبرى”.