روبرت فوجل: عندما يتحدث الاقتصاد بصوت البشرية

حين ظن كثيرون أن الاقتصاد قد استنفد مفاتيحه الكبرى، ظهر روبرت فوجل كصوت غير تقليدي، قلب النظرة السائدة رأسًا على عقب.
لم يتعامل مع الاقتصاد كعلم جاف غارق في الجداول والمعادلات، بل كأداة لفهم الإنسان في عمقه البيولوجي والتاريخي. لم يكن هدفه مجرد تفسير ما جرى، بل إعادة طرح السؤال: ما الذي يجعل الأمم تنمو حقًا؟
استند فوجل في مقارباته إلى الأرقام والتحليل الكمي، لكنه لم يقع في فخ التجريد؛ بل سعى إلى تجسير الهوة بين المعطى الإحصائي والواقع الإنساني.
كانت تحليلاته مبنية على البرهان لا الانطباع، وعلى الفهم الدقيق لا الشعارات.
شكّل بذلك نقطة تحول حاسمة في علم الاقتصاد، حين أصر على أن التاريخ لا يُقرأ فقط عبر السرديات، بل يجب تفكيكه عبر الأدوات الكمية.
ومع دوجلاس نورث، فتح آفاقًا جديدة للتاريخ الاقتصادي، وأخرجه من دوائره المغلقة نحو فهم أكثر ديناميكية وواقعية.
ولم تقتصر إسهاماته على التنظير الأكاديمي، بل امتدت إلى التأثير في السياسات العمومية؛ إذ أظهرت أبحاثه حول الصحة والتغذية الدور الحاسم لهذه العوامل في تشكيل الإنتاجية والنمو الاقتصادي المستدام.
كما فجّر جدلاً واسعًا بموقفه من قضية العبودية، حين قدّم قراءة اقتصادية غير تقليدية، فتحت الباب أمام نقاشات أوسع حول تقاطعات الاقتصاد مع الأخلاق والسياسة.
حقائق قد لا تعرفها عن روبرت فوجل
التحول من الإيديولوجيا
إلى الأدلة والبراهين
– وُلد فوجل في زمن كانت فيه كوابيس الكساد الكبير حاضرة في الذاكرة الأمريكية، وحين ساد الخوف من تكرار الانهيار مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
– لم يكن انخراطه في دراسة الاقتصاد مجرّد خيار أكاديمي، بل محاولة لفهم ديناميكيات القوة والركود والازدهار؛ لكن ما ميزه حقًا لم يكن فقط شغفه بالاقتصاد، بل طريقة تعامله معه.
– بدأ حياته متأثرًا بالأفكار الاشتراكية، إلا أن تجربته الأكاديمية، خاصة تحت إشراف أعلام مثل سيمون كوزنتس وجورج ستيجلر، دفعته إلى تبني نهج يقوم على الصرامة الكمية، بعيدًا عن الانحيازات الإيديولوجية.
– في نظره، لا مكان للحدس أو العاطفة في فهم الاقتصاد؛ فقط ما يمكن قياسه وتحليله يستحق أن يُبنى عليه الاستنتاج.
الاقتصاد كأداة لفهم
التاريخ… لا تمجيده
– لعلّ أكبر إسهامات فوجل جاءت من منهجيته غير التقليدية: “الكليومتريا” (Cliometrics)، التي مزجت أدوات الاقتصاد والرياضيات مع دراسة التاريخ.
– لقد أخرج هذا الدمج غير المسبوق التاريخ من قفص الروايات العاطفية وأدخله مختبر التحليل السببي.
– ومن خلال هذه المنهجية، أجرى فوجل مراجعة شاملة لأبرز محطات التاريخ الاقتصادي الأمريكي.
– ففي دراسة شهيرة، فحص تأثير السكك الحديدية على الاقتصاد في القرن التاسع عشر، ليصل إلى نتيجة صادمة: نمو الاقتصاد الأمريكي لم يكن ليتغير كثيرًا حتى لو لم تُبنَ تلك السكك الحديدية.
– إذ لم تتجاوز النسبة الحقيقية لتأثيرها على الناتج القومي 2.7%. بهذا، دحض أسطورة “الرجال العظام” الذين يُقال إنهم شيّدوا أمريكا.
– كان هذا النهج أكثر من مجرّد هدم للأساطير؛ بل كان دعوة لإعادة التفكير في منطق النمو ذاته، وفي القيمة الحقيقية للسياسات الكبرى التي غالبًا ما تُسوَّق كمنجزات خارقة بينما تأثيرها الفعلي أقل بكثير.
العبودية: ما لا تود
المجتمعات الاعتراف به
– انتقل فوجل لاحقًا إلى منطقة أكثر حساسية: العبودية. بالتعاون مع ستانلي إنجرمان، استخدم البيانات الاقتصادية لدحض الاعتقاد السائد بأن العبودية كانت نظامًا متداعيًا وغير مجدٍ اقتصاديًا.
– خلصت أبحاثهما إلى أن العبودية، رغم وحشيتها، كانت منظومة فعّالة ومربحة ضمن شروط اقتصاد السوق آنذاك.
– لم يكن هذا دفاعًا عنها، بل توصيفًا موضوعيًا لمؤسسة قائمة على الاستغلال الممنهج، لكنها لم تكن تنهار ذاتيًا كما ادعى البعض؛ بل كان إنهاؤها قرارًا سياسيًا بامتياز.
– أثار هذا الطرح عاصفة من الانتقادات، خصوصًا من دوائر أكاديمية ذات توجهات ليبرالية.
– لكنه في الحقيقة، لم يكن يتحدث عن “عدالة” النظام، بل عن مقدرته الاقتصادية، مفككًا بذلك العلاقة الزائفة بين ما هو اقتصادي وما هو أخلاقي.
– ومن اللافت أن فوجل، كان متزوجًا من أمريكية من أصل أفريقي، كانت تشكل في حياته ما أسماه “الضمير الاجتماعي”.
الصحة: الاقتصاد يبدأ
من الجسد
– مع تقدمه في العمر، اتجه فوجل إلى سؤال أكثر عمقًا: ما الذي يصنع النمو الاقتصادي فعليًا؟
– وجاءت إجابته من حيث لا يتوقعه كثيرون: الصحة والتغذية.
– في بحثه الذي نال عنه جائزة نوبل، بيّن أن أكثر من نصف النمو الاقتصادي في بريطانيا ما بين 1790 و1980 يمكن إرجاعه لتحسن مستويات التغذية، وتطور الرعاية الصحية، وتحسّن ظروف السكن.
– لم يكن ذلك تأريخًا للنمو فحسب، بل إعادة تعريف له من الأساس: النمو لا يُقاس فقط بالمصانع والأرباح، بل بالقدرة البيولوجية للإنسان على الإنتاج.
– بل وذهب أبعد من ذلك حين قارن بين وتيرة العمل في العصر الحديث وتلك المفروضة على العبيد في القرن التاسع عشر، محذرًا من أن ضغوط الرأسمالية المعاصرة قد تكون، في بعض الأوجه، أشد قسوة من نظم العبودية السابقة.
التحليل المضاد للواقع:
ماذا لو؟
– كانت واحدة من أكثر أدوات فوجل إثارة ما يُعرف بـالتحليل المضاد للواقع، وهي تقنية فكرية تقوم على طرح سؤال: ماذا كان سيحدث لو لم تقع حادثة ما؟
– من خلال هذه المقاربة، فتح آفاقًا جديدة لفهم التاريخ، كاشفًا كيف تتشابك المصادفات مع السياسات، والقرارات الفردية مع التحولات البنيوية.
– سمحت له هذه الأداة بفهم أعمق لعلل التغير، وأسباب التقدم أو التقهقر.
من هايك إلى
“أوباماكير”: الصحة
بوصفها استراتيجية
اقتصادية
– كان فوجل أقرب إلى فكر الاقتصادي النمساوي فريدريش هايك في رؤيته لمكانة الصحة في الاقتصاد.
– وكما دعا هايك إلى ضمان الرعاية الصحية والإسكان ضمن الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، رأى فوجل أن الاستثمار في صحة الإنسان هو الاستثمار الأكثر عائدًا، ولو لم تظهر ثماره سريعًا.
– لهذا، لم يكن غريبًا أن يُستشهد برؤيته عندما طُرح قانون “أوباماكير” للرعاية الصحية في الولايات المتحدة.
– يؤكد فوجل أن هذه السياسات تُبطئ العجز، وتُسرّع النمو، لكن على المدى الطويل فقط.
إرث فوجل لا يُقاس بعدد الأبحاث التي نشرها أو الجوائز التي نالها – ومنها جائزة نوبل – بل بقيمته الفلسفية؛ فقد أعاد الاعتبار إلى الإنسان في قلب العملية الاقتصادية، ونبّه إلى أن النمو لا يتحقق فقط بزيادة الناتج، بل بتحقيق التوازن بين الجسد والتاريخ والعدالة.
وفي عالم باتت فيه مؤشرات النمو أرقامًا تتصدر العناوين، يظل إرث فوجل تذكيرًا بأن الاقتصاد الحقيقي يبدأ من سؤال بسيط: كيف نعيش، لا فقط كم ننتج.