د. جمال لعبيدي ود. أحمد رضوان شرف الدين: رؤى حول قضية الهوية في الإطار الجزائري

د. جمال لعبيدي ود. أحمد رضوان شرف الدين: رؤى حول قضية الهوية في الإطار الجزائري

د. جمال لعبيدي ود. أحمد رضوان شرف الدين

في الأسابيع الأخيرة، دارت جدالات حادة حول مسألة الهوية في الجزائر. دعونا نحاول التعامل مع الموضوع من دون انفعال..

عوامل الهوية
إن عوامل الهوية معروفة: اللغة والثقافة والتاريخ والإقليم، ومن الواضح أن كل هذه العوامل يجب أن تكون مشتركة لتشكيل ما نسميه الوحدة الوطنية. و يجب أيضا أن نضيف إليها عوامل ذاتية وحتى نفسية، مثل رغبة مجموعة اجتماعية في العيش معًا، وتقاسم ليس فقط الماضي، بل والمستقبل أيضًا. الهوية من الناحية السوسيولوجية هي شعور بالانتماء يؤسس، من الناحية الانثروبولوجية، الجماعات والثقافات البشرية.
من بين عوامل الهوية، تعتبر اللغة العامل الرئيسي والنواة، إذ لم نشاهد قط أممًا أو أقليات قومية بلا لغة مشتركة.
فيما يلي سيلاحظ القارئ أننا نتحدث عن اللغة العربية والعروبة أكثر مما نتحدث عن التمازيغت والأمازيغية، وذلك لأن جدالات الآونة الأخيرة ركزت، وبشكل ملفت، على قضايا اللغة العربية والعروبة والحركة العربية أكثر مما ركزت على قضايا الأمازيغية. لماذا؟ لعل السبب في ذلك هو أن اللغة العربية والهوية العربية هما اللتان تتنافسان في الجزائر، بشكل مباشر، مع اللغة الفرنسية والهوية الفرنسية في منافسة شرسة، ولأن الجدالات حول الهوية الأمازيغية أو الهوية العربية تدور، في بعض الأحيان، على خلفية مسألة نفوذ اللغة الفرنسية في الجزائر، وتؤدي بالفعل إلى التطرق إلى هذه المسألة بطريقة أو بأخرى. لقد تعرضت اللغتان، التمازيغت والعربية، لأنواع مختلفة من التهميش والاضطهاد أثناء حقبة الاستعمار وحتى بعدها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لصالح اللغة الفرنسية: هذا هو جوهر المشكلة الذي يتطلب مقالا آخر ربما. وكان التحرر من الاستعمار هو الذي وضع مسألة تنمية اللغتين العربية والأمازيغية على جدول الأعمال، فمصيرهما مشترك.
يشكل هذان العاملان من هويتنا جزء من النسيج الوطني ويمثلان بالضبط خصوصيتنا في العالم العربي. ومن لا يرى ذلك فهو أعمى.

اللغة العربية والعروبة
نسمع من حين لآخر أن “الجزائر أمازيغية عرّبها الإسلام”. هذا غير صحيح تماما، فالعرب المسلمون لا يمثلون سوى 29 % تقريبا من إجمالي عدد المسلمين في العالم، البالغ 1,6 مليار نسمة، وهي حقيقة تناقض ذلك القول. وفي الجزائر نفسها هناك سكان مسلمون تماما دون أن يكونوا عرب اللسان.
إن الأسباب التي تجعل الهويات ثابتة أو غير ثابتة في لحظة معينة من تاريخ المجموعات البشرية أسباب متعددة ومتنوعة للغاية.
السؤال هو: لماذا استقرت اللغة العربية في الجزائر وفي بلاد المغرب وبلاد المشرق، بصفة عامة، وليس في مكان آخر، مثلا في إيران، وفي المحيط الهندي، وفي الدول الآسيوية الإسلامية، الخ. وعليه، من واجب الذين يربطون بصورة آلية بين الإسلام والعروبة في حالة الجزائر أن يشرحوا لنا ذلك، علما أن طرح هذه المسألة يعني، في حد ذاته، الموافقة على أن العروبة جزء أساسي من هويتنا.
لقد أثرت الهويتان الأمازيغية والعربية على بعضهما البعض على مدى قرون من الزمن، وتداخلتا ثقافيا ولغويا وروحيا وإنسانيا، إلى الحد الذي يمكننا فيه أن نتحدث عن هوية عربية بربرية أو عربية أمازيغية. ولا يمكننا وضعهما في تعارض إذا كنا مدفوعين بحسن النية وحسن الإرادة، وليس بحسابات ودوافع خفية، باختصار إذا كان لا هدف آخر لنا غير سعادة الجزائر ووحدتها.
إن عدم إدراك تكامل هويتنا، تكامل وجهي هويتنا، لدليل على الافتقار إلى الثقافة أو على الجهل، وإلا كان سببه عمى غريب. مع نهاية حقبة الاستعمار، شهدت البحوث العلمية في الحوض الحضاري – وليس العرقي -، الواقع بين الفرات وبلاد المغرب، من عُمان إلى موريتانيا، ازدهارا غير عادي وأظهرت الوحدة المركبة لهذه المساحة المتواصلة. ونحن الآن في البداية فقط لمسار من الاكتشافات العظيمة في هذا المجال، سوف تتزايد بلا شك كلما زاد تحرر العالم من قيود التغريب والتمركز الأوروبي وأحكامهما المسبقة. هناك عالم كامل ينتظر مكتشفيه. سنعود إلى هذا الموضوع.
كان يتوقع أن تكون نتائج تلك الاكتشافات العلمية حول هذا الموضوع مطمئنة، ومع ذلك لا تزال الجدالات قائمة. إنه لغز صعب الحل. ما هي أسباب هذه الجدالات؟ من المحتمل أن تكون غير عقلانية إلى حد كبير، فمسائل الهوية والانتماء حساسة للغاية ويكفي لإثارتها كلمة واحدة أو إشارة محبطة أو سوء فهم أو إذلال، وخاصة عندما تشعر مجموعة سكانية معينة بأنها أقلية وبالتالي عرضة للخطر والضعف، لأن الأغلبية، باستخفاف مدهش، تقترح عليها ببساطة، كحل نهائي للمشكلة ومرة واحدة وإلى الأبد النظر إلى الأمور نظرة نسبية ووضع الاختلافات جانبا، باختصار أن تصبح جزء منها.

الإسلام
إن القول ب “أننا شعب أمازيغي عربه الإسلام” يحتوي على خطأ آخر: لا يوجد الإسلام كهوية وطنية في حد ذاته في أي مكان من العالم حتى وإن شارك في البناء الثقافي والحضاري لهذه الهوية. هذا هو حال الأديان الأخرى أيضا، فهي لا تمثل هويات على الإطلاق. وهكذا هو الحال مع المسيحية؛ فمن الناحية الدينية، يمكن للإنسان أن يكون عربياً وهو مسيحي مثلا، ولكن لا يمكنه، أن يكون ” مسيحيا ومسلما في نفس الوقت. وأما من ناحية الهوية الوطنية، يمكنه أن يكون “فرنسيًا مسلمًا” و لكن  لا يمكن لأحد أن يكون عربياً بينما هو فرنسي أو ألماني. إن تسمية “الفرنسي العربي” لا معنى لها، لأنها تجمع هويتين مختلفتين. وهذا يدل بوضوح على أن لفظ “عربي” أو “فرنسي” أو “ألماني” وما إلى ذلك يشير إلى عامل من عوامل الهوية الوطنية، خلافا للفظ “مسلم” أو “مسيحي” .
إن الرسالة الإلهية عالمية بحكم التعريف؛ فالدين رسالة تعلو الجنسيات، ويُنظر إليها عمومًا على هذا النحو، باستثناء بعض التصورات الضيقة التي تنبع من مصادر أخرى.
وأما الخطاب الوطني أو القومي فهو مرتبط، بحكم التعريف أيضا، بتاريخ وثقافة ضمن حدود زمانية ومكانية معينة، ولذا فهو يحمل طابعا حصريا بالضرورة. هذا في حين أن الدين اشتمالي.
لا توجد وحدة وطنية تحققت على أساس الدين بحد ذاته.  إن الصهيونية وحدها، في نهاية المطاف، أرادت أن تجعل من الدين هوية وطنية، ومن الدين اليهودي جنسية، في حين أن اليهود في الدين ينتمون إلى جنسيات متنوعة للغاية. والجميع يعلم العواقب الوخيمة المترتبة على إصرار الصهيونية على انتهاك سيرورة تاريخية عمرها ألف عام من أجل جعل الدين اليهودي دولة أمة.
إن الإسلام يلخص عالميته في عبارة مضيئة واحدة: “لا إكراه في الدين”، وهي فكرة ثورية في التسامح كانت جديدة كليا في وقتها، وجعلت الحضارة العربية الإسلامية عظيمة. هنا يكمن تفسير الانتشار السريع للغاية للإسلام في جميع أنحاء العالم في أغلبية الأحيان، وخاصة في آسيا والمحيط الهندي ودول جنوب الصحراء في أفريقيا، وكذلك تبنيه السريع أيضا في شمال أفريقيا.
وبالنسبة لشمال أفريقيا خصيصا، هناك أيضاً التفسير القائم على التقارب بين الإسلام والحركة الدوناتية الشعبية البربرية. كانت هذه، في القرن الرابع، حركة مناهضة للاستعمار واسعة النطاق من قبل الدوناتيين، إلى جانب السيركومسيليون (عمال الزراعة البربر المتجولين) وموجهة ضد سيطرة المستعمرين الرومان وممتلكاتهم الكبيرة (اللاتيفوندياس). على الصعيد الديني، كانت الحركة الدوناتية ترفض عقيدة “الثالوث” المسيحي التي جعلت من الله “الآب والابن والروح القدس”. كان القديس أوغسطين، أسقف هيبون (عنابة اليوم)، والكاتب الروماني، ابن أم أمازيغية وأب روماني، قد فرض هذه العقيدة، لأسباب سياسية على ما يبدو، من أجل تسهيل الاندماج بين المسيحية والمعتقدات الرومانية، وخاصة تلك المتعلقة “بزيوس – جوبيتر، أبو الآلهة”. وكان القديس أوغسطين يؤيد القمع الدموي الروماني المسلط على الدوناتيين. لقد استمرت الدوناتية لمدة ثلاثة قرون ونصف حتى ظهور الإسلام، وكما هو معلوم، يوجد في الإسلام نفس الرفض لعقيدة الثالوث، وهو عامل آخر، عامل روحي هذه المرة، قد يفسر الالتحاق السريع لسكان أفريقيا الشمالية بالديانة الجديدة الذين ظلوا يتذكرون القمع القاسي الذي تعرض له الدوناتيون الأمازيغ .

الوحدة العربية و القومية العربية والهوية الجزائرية
وترتبط بمسألة العروبة مسألة القومية العربية وعلاقتها بالأمة الجزائرية وهويتها. وهنا أيضا، جرت محاولة من جانب بعض القوى السياسية، لحسن الحظ هامشية للغاية، لأخذ لفظ “العربي” بمعناه الظاهري، وتقليصه إلى رؤية عرقية أو حتى “عنصرية”. ان العروبة حقيقة لغوية وثقافية وتاريخية، بل وجغرافية أيضا، إذا ما أخذنا في الاعتبار استمرارية الفضاء الذي يمتد عليه العالم العربي. وهي ليست عرقية مثلما تظهره قائمة ال22 دولة عربية بجلاء. كيف يمكن للجزائر أن تكون أقل عروبة من مصر والعراق والسودان والصومال وموريتانيا وسوريا وفلسطين ولبنان وغيرها؟ لكل دولة عربية خصوصياتها، بما في ذلك الخصوصية اللغوية والدينية، لكن لماذا يكون هناك تناقض في كونها دولة عربية في نفس الوقت؟ إن القول ب “أننا لسنا عربا “، بناء على رؤية عرقية للأمة العربية، قول ينطبق عندئذ على كل الدول العربية، باستثناء المملكة العربية السعودية ؟ هذا هراء.
يريد المعادون للأمة العربية إضفاء الشرعية على موقفهم من خلال إظهار تأييدهم لنضال الشعب الفلسطيني في مواجهة خيانة العديد من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، ويركزون بشكل خاص على “خيانة” الإمارات العربية المتحدة.
حسنًا، ولكن لو كان هذا هو السبب الحقيقي، و كان هذا الموقف نزيها وثابتاً، فإنه كان لابد أن يؤدي إلى نتيجة معاكسة، أي النضال من أجل تعزيز الوحدة العربية حول فلسطين، عبر اقتراح – مثلا – جبهة نضال عربية على غرار “جبهة الصمود و التصدي”  في ديسمبر/كانون الأول 1977، بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى تل أبيب. غير أن هذا لم يحدث. ومن الواضح أن الهدف هو تدمير أي أفق استراتيجي للوحدة العربية واستخدام انقسامات البلدان العربية ذريعة له. ويجري بذل كافة الجهود الممكنة لإضعاف هذه البلدان مجتمعة ومنفردة. هذا ما يحدث بالفعل، إذ يقع خلف الخطاب الديماغوجي والمزايدات، طرح نهج سلبي وانهزامي يتمثل في الانسحاب من جامعة الدول العربية.
الحجة هي أن الجامعة العربية غير فعالة. هل يجب أن نترك الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية وحتى، دعنا نقولها بابتسامة، منظمة الصحة العالمية، واليونسكو، وما إلى ذلك، بسبب عدم فعاليتها؟ هل يجب أن نخرج من اتحاد المغرب العربي أو نحله لأن إحدى دوله، المخزن، تحالفت مع الصهيونية ؟ كل هذا يفتقر إلى الانسجام.
يجد الشعب الفلسطيني في عروبته مصادر طاقة لا تنضب؛ وهو يدعو البلدان العربية إلى التضامن، ويستنكر مماطلتها أو خيانتها، بالضبط لأنه عربي وتضامنها معه يعد حقا من حقوقه وواجبا لا مفر منه من واجباتها. هل نقول له بأنه ليس شعبا عربياً، وهو مثل الشعوب العربية الأخرى غني بالتنوع، بما في ذلك التنوع الديني؟ هل ننصحه بالخروج من الجامعة العربية؟ إن مثل هذه النظرة لا تفتقر للعقل فحسب بل هي طعنة في ظهر الفلسطينيين، تحت غطاء دعمهم المزعوم.
هناك حجة أخرى مفادها أننا لا ندافع عن فلسطين لأسباب “عربية” أو دينية، وإنما بصفتها قضية إنسانية: أين التناقض ؟ كلام سخيف مرة أخرى: هل الإسلام والأديان بشكل عام غير إنسانيين؟ ألا يمكننا أن نكون إنسانيين بعمق، وفي نفس الوقت عربًا ومسلمين ومؤمنين بعمق أيضا؟ مثل ذلك الموقف يهدف إلى تقديم رؤية مجردة للنضال والتضامن مع فلسطين، بينما يبدي كل شخص تضامنه بتوظيف موارد ثقافته وهويته الوطنية والدينية أيضا. أين التناقض بين هذه الموارد والبعد الإنساني؟ إنه موقف يقترح رؤية وحشية للأممية، أممية مجردة، تقوم على محو مكونات ثقافة وهوية كل شعب، باختصار محو الثراء المميز للإنسانية. وهذه النزعة الأممية، التي يراد منها أن تكون نقيضا للقومية، قد أحدثت الكثير من الضرر كما هو معلوم.
للوحدة العربية مضمون تقدمي موضوعي، مثل أي وحدة لأمم أو لجماعات بشرية، فهي أكبر من مشروع سياسي، إذ أنها طموح تاريخي يتقاسمه مئات الملايين من الناس. وما الرغبة في حرماننا من الوحدة العربية سوى إضعافنا. أليست الوحدة قوة؟ وأما الاستهزاء بها من خلال استغلال صعوبات انبثاقها في مواجهة الشدائد والقوى المعادية، فلا يعد موقفًا مترويا وموضوعيًا، بل هو ببساطة تنازل وخضوع مقنع لأولئك الذين لا يستطيعون بسط السيطرة علينا إلا بسبب انقساماتنا.

المقال التالي-الجزء الثاني: “الهوية في الصراعات. الهوية وحرية التعبير”.