محمود كامل الكومي: البيت وسط الأشجار

محمود كامل الكومي: البيت وسط الأشجار

محمود كامل الكومى
في نهاية المخيم، تحت ظلال شجر الزيتون الأخضر، كان البيت يئن من وجع الصمت. منزله الذي عاش فيه الجد الأول، وحفر بجدرانه أسماء الشهداء، صار الآن مأوى للذكريات. هناك، في بيت لحم، حيث وُلد المسيح، كنتُ أحمل غصن زيتون لأقدمه لأسرة جارنا الأسير. وكنت أعرف أن كل زيتونة هنا تشهد على خيانة، وتبكي حين يُقال إن فلسطين ليست عربية.
في الطريق نحو مخيم الدهيشة، لم تكن قدماي تمشيان فقط، بل كانت تفتشان عن جيل الحجارة، عن ذلك الفتى الذي رفع السكين بوجه جنديٍّ مدجج بكل خيانة الأرض، وكان صدره درعًا لكل الأطفال الذين وُلدوا تحت الاحتلال.
وفي رام الله، كانت السلطة تحرس أمن المستوطنات، تراقب شوارع المخيم، وتفتح أبواب سجون ملحقة بعوفر وعسقلان. يا لسخرية التاريخ! صار الأسرى ينتظرون الفرج من سجّانيهم.
أما في غزة، فالجراح تنزف مرتين. مرة من الحصار، ومرة من الانقسام. كتائب حملت اسم القسام، ورايات حمراء وسوداء وخضراء، كلها سكنت نفس الجرح، وتشاجرت على فتات البقاء. حتى “السلطان” الذي كانت بوصلته لندن، موّل كل شيء إلا فلسطين.
لكن في السابع من أكتوبر، حين أشرقت الشمس على وجه الجنوب، عادت روح المقاومة من بعيد. أتاها مدد من الجنوب اللبناني واليمن الصامد. وصدحت السماء بنداء جديد، بأن فلسطين ما زالت حية، وأن الصهاينة وإن طغوا، فليسوا بملوك الخلود.
المنزل هناك…
في مخيم عين الحلوة، في اليرموك، في نهر البارد، في جرش، في كل خيمة وشقّة تطل على الأمل، هناك حكايات تُروى بدم الشهداء. تذكرت ناجي العلي، وكيف أدار “حنظلة” ظهره للعالم، لأنه لم يعد يرى شيئًا غير الخيانة. لم يرضَ أن يبتسم، حتى تعود فلسطين.
في القدس، تعددت الأبواب، خمسة عشر بابًا لا تفتح إلا على الحزن. من باب المغاربة إلى باب السلسلة، هناك يبكي الأقصى، وتنتحب المآذن. الصهاينة يحفرون تحته، والعرب فوق الأرض يشرعنون الهدم. قالوا: لا إسراء هنا، ولا معراج، وكأن جبريل نزل في الرياض لا في القدس.
وفي الخليج…
قصور من زجاج البترول والدخان. رجالٌ بأثواب الثراء يركضون إلى تل أبيب. يوقعون بالأحرف الأولى على خيانة الأقصى، ويشربون نخب الهزيمة. قالوا: التطبيع “سلام”. لكن السلام الذي يأتي من فوق جثث الأطفال ليس إلا قناعًا لأنياب الذئب.
في ذلك المنزل، في عراق المنشية، كان جمال عبد الناصر يقرأ التاريخ، ويفهم الجغرافيا. عرف أن فلسطين لا تُباع، وأن الأمة لا تُشترى. بنى من القاهرة قلاعًا للأمل، وحذّر من أن تكون الجامعة العربية جسرًا للذبح، فها هم اليوم يُعيدون تمثيل الكارثة، لكن بلا خجل.
قالها ناصر:
الصراع مع إسرائيل صراع وجود.
يجب كنس الرجعية من أرض العرب.
لا تجعلوا الجامعة أداة لضرب الوحدة.
لكننا لم نصغِ، أو لعلنا تعبنا من الحلم. واليوم، في زمن الردة، نشاهد إسرائيل تُمدد أصابعها من النيل إلى الفرات، والرجعية تُصفق. ورجال أعمال  مصريبن في سفارة العدو على النيل.
المنزل تحت الأشجار ما زال قائمًا.
فيه زيتونة جدتي التي لم تنجب غير الشهداء، فيه مفتاح البيت القديم الذي لم يصدأ، فيه صورة عبد الناصر بين صورة العذراء وحائط البراق. فيه حنظلة يرفض أن يكبر حتى نكبر. فيه سؤال: متى نفيق؟
وفي النهاية، لن تهزمنا الهزيمة. لأننا – نحن سكان المنزل تحت الأشجار – نحمل جذورًا أعمق من الاحتلال، وأقوى من النفط، وأصدق من كل مؤتمرات التطبيع.

كاتب ومحامي -مصري