عبد الحكيم العياط: السياسات العامة في المغرب: من المشاريع الكبرى إلى العوائق الهيكلية

عبد الحكيم العياط: السياسات العامة في المغرب: من المشاريع الكبرى إلى العوائق الهيكلية

 

 

عبد الحكيم العياط

شهد المغرب خلال العقود الأخيرة زخماً متزايداً في إطلاق السياسات العمومية، حيث تم تسويق أوراش كبرى كمشاريع استراتيجية لتحسين مؤشرات التنمية وتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، على غرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومخطط المغرب الأخضر، ورؤية 2020 للسياحة، وبرامج إصلاح التعليم والصحة والإدارة. غير أن واقع التنفيذ والتقييم يكشف مفارقات عميقة بين الطموح المؤسساتي والنتائج المحققة، مما يطرح اليوم سؤالاً مركزياً حول قدرة الدولة على صناعة سياسات عمومية ناجعة ودامجة وفعالة في ظل تعقيد السياقات الاجتماعية والاقتصادية.
الإشكالية الأساسية التي تطرح نفسها اليوم هي: لماذا، رغم توفر المغرب على رؤية إصلاحية متقدمة ومؤسسات دستورية جديدة بعد 2011، ما تزال السياسات العمومية تعاني من ضعف في النجاعة والالتقائية والتأثير؟ وهل الخلل يكمن في طبيعة التصميم أم في آليات التنزيل والتقييم والمساءلة؟
يعد غياب التنسيق بين القطاعات الحكومية من أبرز الأعطاب التي تعاني منها السياسات العمومية بالمغرب، حيث تشتغل كل وزارة أو مؤسسة بشكل معزول، دون أي تصور مشترك أو إطار ناظم للعمل المشترك. ويؤدي هذا النمط المجزأ من التدبير إلى تعدد البرامج وتداخل الاختصاصات وتكرار نفس المشاريع في مجالات متقاربة، مما يفرز هدرًا كبيرًا للموارد البشرية والمادية، ويُضعف من أثر هذه السياسات على الأرض. ويكفي التمعن في برامج دعم التمدرس، أو محاربة الفقر، أو التشغيل، لنلحظ تشتت الجهود بين  الوزارات والمؤسسات المعنية، وتضاربًا في الأولويات، وغيابًا لمنهجية تقييم موحدة.
هذا الواقع يُنتج ما يمكن تسميته بـ”التدبير الانعزالي”، حيث تتحول كل مؤسسة إلى كيان مستقل لا يتفاعل بفعالية مع باقي الفاعلين، ما يفرغ السياسات العمومية من محتواها الإصلاحي. ويتجلى ذلك في غياب قواعد بيانات مشتركة، وفي ضعف تبادل المعلومات والمعطيات بين القطاعات، مما يعمق من بطء التفاعل مع الأزمات، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19 في بعض مراحلها، حيث تأخر التنسيق بين وزارات الصحة، والتعليم، والداخلية في معالجة بعض الاختلالات الميدانية.
الأخطر من ذلك أن منطق التنافر المؤسساتي لا يخدم رهانات التنمية، بل يُكرس منطقًا بيروقراطيًا يجعل من المواطن آخر اهتمامات الإدارة. فرغم إطلاق برامج إصلاح الإدارة وتعزيز الرقمنة، لا يزال التنسيق ضعيفًا، وهو ما يُفرغ الخطابات الرسمية من مضمونها ويجعل السياسات العمومية مجرد “إعلانات نوايا” دون ترجمة واقعية، نتيجة غياب إطار مؤسساتي للتقائية السياسات وتكاملها.
التقارير الرسمية تؤكد أن جانباً كبيراً من السياسات العمومية يعاني من الأعطاب البنيوية. فحسب المجلس الأعلى للحسابات، فإن 47 في المئة من المشاريع المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بين 2019 و2022 لم تكن مبنية على دراسات قبلية كافية، وتم تنفيذها دون تقييم دوري، مما أدى إلى تعثرها أو إلى إعادة برمجتها. وفي السياق ذاته، تبقى نسبة البطالة مرتفعة رغم مجهودات التشغيل، إذ بلغت 13 في المئة سنة 2023، في حين أن البطالة في صفوف حاملي الشهادات تجاوزت 18 في المئة، حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط. أما الفقر متعدد الأبعاد، فرغم تراجعه النسبي، لا يزال يهم أكثر من 4 ملايين مواطن، أغلبهم في العالم القروي والمناطق الجبلية.
كما تكشف تقارير البنك الدولي عن ضعف حكامة السياسات العمومية في المغرب، حيث جاء في تقرير 2021 أن تداخل الصلاحيات وغياب التنسيق بين القطاعات الحكومية يُفرغان السياسات من فعاليتها، رغم توفر رؤية إصلاحية. ويُعزز هذا الرأي مؤشر ضعف الالتقائية، إذ تعمل وزارات مثل الصحة، والتعليم، والتضامن، والتشغيل على برامج متقاربة تستهدف الفئات نفسها دون تنسيق مؤسساتي أو تبادل للمعطيات، مما يؤدي إلى ازدواجية في الجهود وتبديد الموارد.
الجانب الأكثر خطورة هو غياب التقييم المستقل والمنتظم لبرامج الدولة، حيث إن العديد من البرامج تُنجز في غياب آليات دقيقة لرصد الأثر، وتفتقر إلى أدوات لقياس مدى مطابقة الأهداف للنتائج. وفي هذا السياق، تشير بيانات رسمية إلى أن قرابة 60 في المئة من البرامج الحكومية لا تخضع لتقارير تقييم دورية تُعرض على البرلمان، مما يضعف من آليات المحاسبة الديمقراطية. وقد خصص البنك الدولي سنة 2024 مبلغ 600 مليون دولار لدعم تحسين الأداء الإداري في المغرب، منها 350 مليوناً موجهة لإصلاح المؤسسات العمومية و250 مليوناً لتحسين نجاعة الميزانية وتعزيز الشفافية.
أما على مستوى علاقة المواطنين بالمؤسسات، فتظهر مؤشرات الثقة هشاشة واضحة. إذ لا تتعدى نسبة ثقة الشباب في المؤسسات الحكومية 49 في المئة، مقارنة بـ60 في المئة لدى من تفوق أعمارهم 35 سنة، وفقاً لمؤشر الثقة المؤسساتية الصادر عن البنك الدولي. بينما يثق 97 في المئة من المغاربة في المؤسسة العسكرية و73 في المئة في أجهزة الأمن، ما يعكس اختلالاً في توزيع الثقة داخل منظومة الدولة. وهذه الفجوة تنذر بتآكل الرابط الاجتماعي والسياسي بين المواطن والدولة، وتطرح تحدياً أمام أي سياسة عمومية تطمح إلى الاستدامة والنجاعة.
إضافة إلى ذلك، يتم استبعاد النخب العلمية والأكاديمية، التي من شأنها أن تساهم في بناء السياسات على أسس معرفية وميدانية صلبة. فرغم وجود جامعات ومعاهد متخصصة، ورغم توفر كفاءات وطنية عالية، إلا أن مساهمتها في إعداد السياسات تبقى محدودة جدًا، مقابل الاعتماد المفرط على مكاتب الدراسات الأجنبية التي تُنتج في الغالب توصيات تقنية، لا تراعي الخصوصية المغربية، ولا تتلاءم مع التحديات الاجتماعية والثقافية للمجتمع.
ورغم هذه الأعطاب، يسجل المغرب بعض المكتسبات، لا سيما في مجال الموازنة الجندرية، إذ يعد أول بلد في شمال إفريقيا يدمج هذه المقاربة في إعداد الميزانية منذ 2002، وقد غطت سنة 2016 حوالي 80 في المئة من بنود الميزانية العامة. كما يشهد ورش الرقمنة تطوراً متسارعاً من خلال منصات إلكترونية كـ”rokhas.ma” و”chikaya.ma” و”monentreprise.ma”، التي سهلت الولوج إلى بعض الخدمات الإدارية. إلا أن غياب ربط التحول الرقمي برؤية شمولية للتحديث الإداري يجعل هذه المنصات محدودة الأثر في غياب التكوين والتأطير ومصاحبة المواطن.
إن السياسات العمومية في المغرب اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم. فإما أن تتحول إلى أداة فعلية للتغيير الاجتماعي والتنمية المستدامة، عبر إعادة الاعتبار للعلم في التخطيط، وتعزيز دور التقييم والمساءلة، وربط البرامج بحاجيات المواطن لا بالأجندات السياسية، وإما أن تظل رهينة لمقاربات موسمية ومرقّعة تعيد إنتاج الهشاشة وتغذي التفاوتات. وحدها إرادة سياسية قوية، تستند إلى مؤسسات مستقلة وتخطيط تشاركي مبني على معطيات دقيقة وتصور استراتيجي بعيد المدى، كفيلة بإعادة الثقة إلى الفعل العمومي وبناء دولة قادرة على الاستجابة لانتظارات مجتمع سريع التحول.
كاتب مغربي