الإبراهيمية وصراع السلام؟

الدكتور طارق ليساوي
أشرت في مقال “عيد أضحى مغربي بدون ذبح” إلى أن قرار إلغاء الأضحية كشف جملة من المفارقات و الحقائق، و من جملتها حقيقة مؤلمة وهي أن كثيرون من المغاربة لم يكونوا يؤدون شعيرة ذبح الأضحية تعبّدًا وتقربًا إلى الله، بل كانت مجرد عادة موسمية تُشبع بطونهم ببروتين حيواني، والدليل على ذلك كثرة الزحام أمام محلات الجزارين وطول الطوابير الطويلة دون ان ننسى الذبائح السرية، فكثيرون ذبحوا قبل العيد بأيام و بعضهم ذبح بعد مرور أيام التشريق، فأي منطق هذا يا عباد الله ؟!.
منطق ملغوم
لكن في تحليلي أحاول الابتعاد عن منطق مشبوه و ملغوم، فالفساد عم و تفشى و هذا أمر مؤكد و تناسل الفضائح تباعا دليل على أن الوضع خرج عن السيطرة ، بل إن ما يطفو على السطح مجرد قمة جبل الجليد التي تحتاج لمزيد من البحث و التدقيق و التحقيق لفضح مأسي أكبر و أخطر و أفظع، و أعيد تأكيد بأن الأسماك تفسد من رؤوسها، و قياسا على ذلك فإن المجتمعات تفسد من نخبها ..و من الخطأ أن نحمل الفساد لعامة الناس و للشعب ، و نتهم الناس بأنهم “ملهوطين” و غير “منضبطين”، فالفساد في مجتمعاتنا العربية مخطط له و منظم بشكل عجيب ، و مؤسسي بشكل فريد..
وتبعا لذلك، فإننا نجانب الصواب إذا نسبنا الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية إلى انحطاط أخلاقي لدى الشعوب، فليس هناك شعب صالح وشعب فاسد، فبقدر ما تكون الحكومات صالحة بقدر ما تكون الشعوب مستقيمة وشريفة، إنها معادلة بسيطة جداً، فصلاح الأولى يعني بالضرورة صلاح الثانية. وإذا فسدت الأنظمة فإن الناس ستفسد أتوماتيكياً تماماً كما يحدث للسمكة، فما أن يخرب الرأس حتى تسري النتانة في باقي أعضاء السمكة مباشرة. وهكذا أمر المجتمعات فلا تستقيم إلا باستقامة الرؤوس الحاكمة..إن أكثر ما أخشاه أن يتم تمرير مجموعة من المخططات السوداء و الملغومة، باسم الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و التغيرات الجيواستراتيجية و المناخية و هلم جرا من الذرائع ..
الحلم الدجالي
إن الخطر الداهم و المتربص بالأمة و مقدراتها هو الكيان الصهيوني و أحلامه الدجالية، بشهادة الهيئات الدولية و الشعوب الغربية التي خرجت تضامنا و تنديدا بإجرام تجاوز كل الحدود ، هذا الكيان يتسرب بالتدريج بين صفوفنا بلبوس مختلفة و أساليب خفية ، تنفيذا لحلم صهيوني تلمودي توراتي ، فالصهاينة يحلمون بإحياء مملكة الملك – النبي سليمان عليه الصلاة و السلام، لذلك فالحدود الحقة لصناع الحلم الصهيوني تمتد إلى حدود ” مملكة سليمان” و الغاية التي تحكم العقل الاستراتيجي الصهيوني هو البحث عن هيكل سليمان بل و أسرار و كنوز “نبي الله سليمان” و التي مكنته من تسخير شياطين الجن و الإنس لخدمة مشروعه…لكن و بعد قرون من الجهد التنظيري و التحريفي نجحوا إلى –حدما في إقامة وطن لهم- على أرض فلسطين المحتلة، و حدودهم كما يشير علمهم “من البحر إلى النهر”، و سعيهم لإختراق المنطقة العربية و تفتيتها هدف استراتيجي للكيان الصهيوني و الغاية تحقيق الحلم الصهيوني…
و هذا الحلم يتقاطع بشكل كبير مع المصالح الأمريكية والغربية منذ عقود.. هذا التقاطع ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية وأيديولوجية متشابكة، شرحناها بتفصيل في مؤلف “النموذج التنموي المنشود بأجزائه الثلاثة”، و الذي لازال لم يحظى بعد بالحصول على وصل الإيداع القانوني من مصلحة الإيداع القانوني للكتب بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربة بعد مرور أزيد من 15 شهر ، و فصلنا الأمر في مؤلف “طوفان الأقصى بأجزائه الأربعة” و أيضا مؤلف “المدرسة النبوية اليوسفية بأجزائه الأربعة” ..
معركة صفرية
وبالتالي فإن الحلم الصهيوني يناقض الحلم العربي – الإسلامي، حلمين يتصادمان ويتعارضان لا محالة، لكن الفرق بينهما كالفرق بين الليل و النهار، فبينما الحلم العربي- الإسلامي يملك كل مقومات النجاح من وحدة دينية و لغوية و جغرافية و تاريخ مشترك، و انسجام و تناغم بين الشعوب ، بالرغم من تنوعها الثقافي و العرقي و الإثني .. لكن هذا الحلم العربي- الإسلامي يفتقد للعقل الاستراتيجي المدبر و المخطط … في حين أن ” الحلم الصهيوني” الأقرب للأسطورة و الخرافة، وجد عقل استراتيجي يعمل على تنزيله، رغم أنه محكوم بالفشل إن لم يكن على المدى المنظور، فإنه لا محالة فاشل على المدى المتوسط و البعيد، فكلما اتسعت خارطة الوعي العربي بالمصير الواحد و المشترك، و كلما إتسعت دائرة الوعي بأن العدو الحقيقي و الفعلي هو الكيان الصهيوني و داعميه، إلا و تقلصت فرص نجاح الحلم الصهيوني و تعززت فرص نجاح الحلم العربي -الإسلامي…
طوفان الأقصى
و جاءت عملية 7 أكتوبر 2023 لتؤكد بأن البيت الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت ، لكن البيت العربي مصاب بوهن بنيوي مصطنع و مخطط له ، فصناع الطوفان نجحوا بموارد ذاتية محدودة ، في فضح المطبعين و إيقاف مهزلة القرن ، و إجهاض جهود التطبيع ، و ستنتهي هذه الحرب إن شاء الله تعالى بفسخ كل عقود و عهود التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفضح كل المؤامرات و الأحلاف الشيطانية الدجالية التي تحاك ضد الأمة و مقدساتها ..و إقامة نظام القرن الجديد و الألفية الجديدة ، نظام عالمي جديد تكون فيه لدولة فلسطين مكانة سامقة في لعبة الشطرنج الدولية ، نظام عالمي جديد ستزول فيه دولة الكيان الصهيوني ، أو على أقل تقدير سينزع عنها رداء الهيمنة و القوة التي لا تقهر، لتعود مجرد كيتو لليهود تحت سيادة دولة فلسطين المحررة ..
يبدو هذا التحليل لكثير من المتصهينين مجرد أضغاث أحلام، لكن شاءت إرادة المولى بعد طوفان 7 أكتوبر أن يجعله حلم في طور التحقق و الإنجاز، الكيان الصهيوني بترسانته العسكرية و قدراته الغير محدودة عجز عن تنفيذ مخططاته في غزة طيلة الفترة الماضية، غزة المحاصرة بحرا و جوا و برا نجحت في تركيع الصهاينة ، ولولا مظلة الحماية الأمريكية و الغربية و النظم العربية ، لما نجح الصهاينة في حماية أنفسهم فضلا عن حماية أصدقائهم و حلفاءهم من المطبعين..
مصيدة التطبيع
إن مصيدة التطبيع تنطلق بدورها من ” دين جديد” أطلق عليه اسم ” الديانة الإبراهيمية” ، و لا غرابة في ذلك فإتفاقيات التطبيع تحمل إسم “اتفاقيات أبرهام” هل تعرف من هو أبراهام؟ استخدم الاسم أول مرة في بيان مشترك لإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، صدر في 13 أغسطس 2020، واستخدم لاحقًا للإشارة بشكل جماعي إلى اتفاقيات السلام الموقعة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة وبين إسرائيل والبحرين، و إسرائيل و المغرب ، و إسرائيل و السودان…
و نُسِبت الاتفاقيات إلى إبراهيم، المُلقب بأبي الأنبياء، وهو شخصية دينية محل تقدير واحترام كبيرين في اليهودية والإسلام ويعد نبيًا ورسولًا في كلتا الديانتين، وينتسب إليه اليهود من ولده النبي إسحاق بينما ينتسب إليه العرب وعلى رأسهم الرسول محمد عليه الصلاة و السلام من ولده النبي إسماعيل، وتنتسب إليه الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، إذ تُسمى بالديانات الإبراهيمية.
ذبيح الله
نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي نستحضر قصته و قصة “الذبيح” إسماعيل عليه السلام كل سنة بمناسبة عيد الأضحى المبارك، وفي هذا الصدد تصر الرواية التوراتية على أن ذبيح الله هو إسحاق عليه السلام، خلافا للرواية القرآنية التي توضح بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام..
و قصة ذبيح الله نموذج للخلاف بين الرواية الإسلامية و الرواية اليهودية، و مثل هذا الخلاف يسري على الأقصى المبارك، في مقابل الهيكل، وغيرها من القضايا التي لا تجعل بيننا و بين هؤلاء ” المغضوب عليهم” أية صلة، فإبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما ، و لم يكن من المشركين و لم يكن يهوديا و لا نصرانيا قال تعالى في محكم كتابه : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( ال عمران -67)..
و بيت القصيد، أن أعداءنا و أعداء الله و رسوله يتكؤون في مشاريعهم الاستراتيجية التوسعية -الإمبريالية، على أطروحات دينية ، ألم يكم بإمكان هؤلاء تسمية إتفاقيات السلام و التطبيع باسم أخر غير إسم ” أبراهام” ؟ هل من الضروري أن نؤصل و نقعد لديانة جديدة ، لإنجاح العيش المشترك و ترسيخ السلام و التسامح؟ ألم يتحقق السلام و التسامح بين اليهود و المسلمين و النصارى طيلة حقبة الحكم الإسلامي؟ هل من الضروري خلع إسلامنا و الانسلاخ عن ديننا و تبني “دين جديد” لكي ننعم بالازدهار و التقدم و السلام؟ ألم تكن الرواية الأولى تقول ” الأرض مقابل السلام ” ؟
الإبراهيمية مقابل السلام
ذلك أن الجولة الأولى من معاهدات السلام مع الكيان الصهيوني قامت على أساس الأرض مقابل السلام، و هو ما أكدت عليه معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وقعت في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة في 26 مارس 1979 في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978، و معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية و التي يشار إليها باسم معاهدة وادي عربة، التي وقعت بين الأردن وإسرائيل على الحدود الفاصلة بين الدولتين والمارة بوادي عربة في 26 أكتوبر 1994..
و بعد ” الأرض مقابل السلام ، أصبح الشعار المعمول به ” التطبيع مقابل السلام” و صارت الرواية التالية و الأخيرة تقول ” الإبراهمية مقابل السلام” و غدا يقال :” الدجال مقابل السلام” و إلا فإن القنابل الذكية و الغبية لن تتوقف عن قصفنا بحجج الدفاع عن النفس و حماية أمن كيان استيطاني إحلالي إجرامي.. و في الختام، تحية لغزة الصامدة و الغزي و العار للمتصهينين العرب و لأعوان الظلمة .. هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب