مسار عبد المحسن راضي وأحمد علي: التأثير السياسي لانتخابات العراق في نوفمبر – مندوب سامي ورئيس الإقليم

مسار عبد المحسن راضي وأحمد علي: التأثير السياسي لانتخابات العراق في نوفمبر – مندوب سامي ورئيس الإقليم

 

 

مسار عبد المحسن راضي واحمد علي

اثنان وعشرون عاماً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وما زالت الأحزاب العراقية غير قادرة على النزول من دبابة عام 2003. رغم خلعها البدلة الزيتونية للنظام البعثي السابق و رمي العباءة الإسلامية على جسدها السياسي، بقيت تلك الأحزاب بلا “جماهيرية وبإطارات عمل عقائدية تحتكر سُلطة الدولة بالمليشيات”. النتيجة اليوم، أنها تجلس على ظهر المواطن العراقي الذي  يُراهن على اعتراف النظام العالمي بأن “العباءة الزيتونية ذات الفصال الإسلامي غلطة دولية لا بد من محوها من السجلات التاريخية”.
بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بين 2003 – 2004 عبَّر عن رؤيةٍ مختلفة تماماً في الـ 10 من مايو الماضي، على شاشة إحدى الفضائيات العربية. رفض تسعير النظام دولياً بأيَّ عملة محليَّة أو إقليميَّة “لا يوجد بلد في المنطقة ممكن مقارنته مع العراق الذي قام بعدَّة انتخابات”. وعليه، فإن المواطن العراقي مُطالب بالتقاعد عن إبداء الدهشة من عدم تأثُّر النظام بـ “تغيُّرات خارجية أو إقليمية ولو بشكلٍ ظاهري”.
الأهمية الإقليمية و الدولية للانتخابات العراقية في نوفمبر القادم، هي ترسيخ “التوازن السلبي” بين واشنطن و طهران بأدوات سياسية. الطبعة القديمة لهذا التوازن كانت بسيطة. العاصمتان حرِصتا استراتيجياً طيلة العقدين الماضيين، على أن تكون مُحصِّلة الصراع بينهما صفراً. لكن كُلفة الصفر الإيراني بدأت بالتحليق عالياً بعد مقتل أبو مهدي المهندس في الـ 3 من يناير 2020. كان يلعب دور المندوب السامي بالشراكة مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني – قُتِل أيضاً بالضربة الجوية الأمريكية التي اودت بحياة الأول – و بالتالي زادت أعباء طهران في ضمان مخرجات سياسية مطلوبة من تحكمها بالأداء العسكري لفيلق المليشيات.
مقتل المندوب السامي الإيراني ذو الرأسين، أدَّى إلى تدافع قادة المليشيات لاستعراض طول قامة النفوذ بهدف الحصول على لقب “الرأس الإيراني الأبرز” في العراق. أبرز الأمثلة أبو فدك المحمداوي الأمين العام السابق لكتائب حزب الله العراقي، أكرم الكعبي أمين عام حركة النجباء، و قيس الخزعلي أمين عصائب أهل الحق.
تدافع المليشيات زاحمَ القادة التقليديين لإدارة “التوازن السلبي” بين طهران و واشنطن. أبرزهم نوري المالكي، حيدر العبادي، عمار الحكيم، هادي العامري، و محمد شياع السوداني الذي ما زال في مرحلة مخاض ولادته زعيماً. هذه المرحلة لن تصِل النهاية إذا لم يحصُد عشرة مقاعد نيابية على أقلِّ تقدير، و كلما تجاوز محطة الرقم عشرة جلس على طاولة الكِبار بأريحية.
 الدعاية المُبكِّرة لانتخابات نوفمبر 2025، كشفت عُقم الأرحام الشيعية و السُّنية عن ولادة بدائل سياسية مقبولة تُعطيها قُدرة المناورة و الاختيار. السوداني كان خياراً شيعياً يتيماً فرضهُ واقع اصطدام الكثيرين من الزعامات التقليدية بـ “جدار السن و شيخوخة برامجها السياسية”. تحالفهُ مع الخزعلي سياسياً – النُسخة الأكثر شباباً من العامري – كان لاختراق هذا الجدار و فضح تلك الشيخوخة. انتخابياً يبقيان في قائمتين منفصلتين لتحديد من يكون رأس النفوذ السياسي في تحالفهما. الأرجح أن عُمر العلاقة الضرورية بينهما قد يمتد إلى عام 2029، أو ينهار سريعاً مُنفصِلاً تدريجياً بعد الانتخابات إذا وجد كِبار السن الشائخين سياسياً بديلاً آخر، يحتفِظون به في الفضاء أو في بلدٍ ما.
الحاصل الآن، أنك لو أردت أن تأخذ صورة لجميع اللاعبين الانتخابيين الشيعة فلن يظهر سوى الفراغ، خلف الشخصيات التي ذكرناها في السطور السابقة. أمّا اللاعبون الشيعة الأقل حظاً في النجاة من هذا الصراع فسيهرعون إلى العباءات السياسية الأوفر حظاً ليختبئوا، أو يعانون سقوطاً ناعماً كمصير ابراهيم الجعفري في لندن. أو أدوار غير ظاهرية ذات دوي إعلامي أحياناً عند الضرورات السياسية.
الزعامات السُّنية التقليدية بدورها، لم يعُد باستطاعتها أن تؤدي دور كاسر الأمواج للبيت الشيعي، و بالتالي ضمان وصول موجات الحِراك السُّني  السياسي إلى بغداد كـ مويجات مطلبية لا كبرامجٍ سياسية وازنة تحقق الاستقرار الاجتماعي. محمد الحلبوسي رئيس حزب تقدم اخترق “جدار السن و الشيخوخة السياسية” لزعماء السُّنة التقليديين. حضورهم الانتخابي لن يعمل إلَّا كرملٍ يفرِشُ طريقه السياسي. أمّا الشخصيات السُّنية الأخرى المتحالفة مع البيت الشيعي فهي ضرورة لضبط إيقاع نبض الحلبوسي في قلب السياسة السُّنية.
تواجد اللاعبين السُّنة و الشيعة في المحافظات المختلطة مذهبياً، يحقِّقُ مصلحةٍ للطرفين. هذه المصلحة المشتركة ستأكل من الطبق السياسي الكردي مقعداً هنا و مقعدين هناك (ديالى، صلاح الدين، نينوى، و كركوك) لكي تستطيع هذه المصلحة المشتركة أن تُقدِّم شيئاً للجماهير، و هو ما يستدعي خفضاً نسبياً لدرجة الحضور السياسي للكرد في تلك المحافظات. أمّا في بغداد فإنَّ المصلحة المشتركة لجميع اللاعبين السُّنة و الشيعة هي خنق مساحات الفراغ التي تملئها المليشيات الإيرانية، و تقليل حجم لاعبين سياسيين “مستقلين”. الطبعة المُبكِّرة من المستقلين اشتغلت كورشة نِجارة لصوت الناخب العراقي، صانِعةً منهُ كرسيَّاً يوائِمُ سُفرة جميع الأحزاب التقليدية، بفضل مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء السابق. لكن بعض المستقلين في طبعة 2025 لديهم برامج سياسية و تحالفات ناضجة، مع لاعبين سياسيين تقليديين بعيدين عن “جدار السن و شيخوخة البرامج السياسية” مثل عدنان الزرفي رئيس تحالف “البديل”.
العلامة الفارقة في المشهد السياسي الشيعي بعد انتخابات نوفمبر، هي صعود أحد زعمائه ليكون المندوب السامي لـ “التوازن السلبي” بين طهران و واشنطن بدون عمائم مُسلَّحة على المدى المتوسط و البعيد. أمّا النظيرة في المشهد السُّني فستكون “اختيار زعامة سياسية لديها سُلطات رئيس إقليم”. الاختفاء النسبي لمؤشرات عودة التيار الصدري إلى العملية السياسية، يحافظ على الهدوء النسبي بين جميع اللاعبين، لأنهم ضمنوا توزيع حصص الفراغ الصدري بينهم مقاعداً نيابية، و بالتالي لن يحتاجوا مزيداً من المشاركة الجماهيرية في الانتخابات القادمة. الأرجح أن الصدريين إن لم يشاركوا انتخابياً فهم لن يزهدوا في توظيف قوَّتهم التصويتية لصالح مُرشَّح أو تحالفٍ ما، يضمنُ عودتهم إلى قلب العملية السياسية وقتما يرغبون بشكلٍ سلس. عدم استخدام هذه القوَّة سيؤدي إلى تآكل حضورهم السياسي بشكلٍ كبير.
الغريب هو محاولة إجبار كردستان العراق على دفع فاتورة هذه الانقلابات في السياسة الداخلية، بعدم دفع رواتب الموظفين في الإقليم و استثمار ذلك كدعاية انتخابية. نسأل في الختام “لماذا ما زال شعار ضرورة المشاركة الانتخابية خفاقاً على الشاشات الفضائية”؟

كاتب و صحافي و باحث عراقي/ إعلامي عراقي