عمرو أبوالعطا: الأداة المفكرة: هل يُنتج الذكاء الاصطناعي بشراً جديداً؟

عمرو أبوالعطا: الأداة المفكرة: هل يُنتج الذكاء الاصطناعي بشراً جديداً؟

عمرو أبوالعطا

منذ اللحظة التي أجابت فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي على أسئلة البشر بطريقة فورية، بل وإبداعية أحيانًا، دخلنا مرحلة غير مسبوقة من الدهشة الجماعية، هذه الدهشة ليست مجرد رد فعل طبيعي تجاه تطور تقني، بل تعبير عن شعور داخلي بأن شيئًا ما في “مفهوم الإنسان” ذاته يتغير أمام أعيننا.
لقد اعتاد الإنسان أن يتعامل مع الأدوات باعتبارها امتدادًا لقوّته العضلية، ثم الذهنية. من المطرقة إلى الطابعة، ومن الآلة الكاتبة إلى الكمبيوتر، كانت الوسائل كلها انعكاسًا لقدراته. أما اليوم، فنحن أمام آلة لا تعكسنا فقط، بل تحاول – أو يُراد لها أن تحاول – أن “تمثلنا” فكريًا، أن تكتب مثلنا، أن تفكر نيابة عنا. والسؤال الذي يطرق باب العقل هنا هو: إلى أي حد يمكن لهذه الآلة أن تُحاكي الإنسان دون أن تُهدده؟
الانبهار بالذكاء الاصطناعي يشبه إلى حد بعيد لحظة انبهار الإنسان القديم بالنار. شيء لم يفهمه تمامًا، لكنه شعر بقوته وارتعد أمامه. ما يحدث اليوم يذكّرني بسحر الطفولة أمام خدع الساحر: نعلم أن هناك خدعة، وأن ما نراه ليس حقيقياً، لكننا ننبهر رغم ذلك. الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد، يرسم لوحات، يؤلف موسيقى. ولكن خلف كل هذه الإنجازات، هناك حسابات رياضية، ونماذج لغوية تم تدريبها على بلايين الجمل، لا روح ولا تجربة حقيقية.
أنا لا أقلّل من أهمية ما نعيشه، بل على العكس، أعتبره نقطة مفصلية في تاريخ الإنسانية. لكن الخطأ الكبير، هو أن نخلط بين “الإتقان الشكلي” و”الوعي الجوهري”. بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يكتب قصيدة عن الحب، لكنه لم يعرف الحب. بإمكانه أن يؤلف نصًا عن الموت، لكنه لم يفقد أمًا أو صديقًا.
إذا كانت المعرفة تُختزل في البيانات، فإن المعنى لا يُختزل. الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يجمع المعلومات، بل ويحللها بشكل مذهل، لكنه لا يستطيع أن “يفهمها” بالمعنى الإنساني. لا يعرف طعم الدموع، ولا رعشة القلب، ولا لحظة الصمت التي يختار فيها الإنسان ألا يقول شيئًا لأن الشعور أكبر من اللغة.
في هذا السياق، أجد نفسي مشدودًا لفكرة أن التحدي الحقيقي ليس أن ننافس الذكاء الاصطناعي في قدراته، بل أن نعيد اكتشاف قدراتنا نحن، كبشر. أن نعود إلى الجوهر: القدرة على التأمل، على الحلم، على الخطأ، على الغفران. هذه ليست “نواقص” كما يحلو لبعض المهندسين تسميتها، بل هي جوهر الإنسانية ذاته.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تطور في سلسلة الأدوات التكنولوجية، بل يمثل تحولًا جذريًا في بنية المعرفة نفسها. نحن الآن أمام نماذج قادرة على إعادة إنتاج المعرفة بشكل “إحصائي” – أي من خلال التكرار والترابط والتوليف. هذه النماذج لا تفهم، لكنها تتنبأ، لا تفكر لكنها تقلّد.
هذا التحول يعني أن المعرفة لم تعد بالضرورة ثمرة لتجربة ذاتية أو بحث تأملي عميق، بل أصبحت قابلة للتوليد السريع بناءً على أنماط سابقة. والخطر هنا ليس في الآلة، بل في استسلام الإنسان لهذا النمط من “المعرفة المعلّبة”. لقد أصبح من السهل جدًا أن يكتب أحدنا مقالًا بمساعدة الذكاء الاصطناعي، لكن الأصعب هو أن يسأل نفسه: هل ما كتبته “أنا”، أم أنني مجرد مشغّل لنموذج لغوي يعمل بكفاءة مذهلة؟
من أخطر ما في الذكاء الاصطناعي أنه يُطبع بوعي غير محلي، بل ويُخضع البشر لهيمنة ناعمة عبر اللغة والثقافة. فالنماذج الكبرى التي تُدرب هذه الآلات تستند في معظمها إلى بيانات غربية، ومنظومات فكرية غربية، ولغات تفترض مركزية معينة للحضارة الغربية.
ما الذي يعنيه هذا؟ ببساطة: أن الآلة تتعلم من روايات الآخرين عنا، لا من روايتنا نحن لأنفسنا. تكتب عن العرب والمسلمين من خلال ما كتبه غير العرب وغير المسلمين. تمثّل المرأة من خلال مقالات نيويورك تايمز، وليس من خلال يوميات امرأة تعيش في الجزائر أو الأردن أو صنعاء.
إن لم يكن لنا دور حقيقي في تدريب هذه النماذج، فإنها ستعيد إنتاج صورة مشوهة عنا، سواء أردنا أم لم نرد. وهذا لا ينطبق على العرب فقط، بل على كل الحضارات “غير المركزية”. وهكذا ننتقل من تهميش سياسي واقتصادي، إلى تهميش معرفي وثقافي عابر للحدود.
في التاريخ، كانت السلطة دائمًا مرتبطة بالمعلومة. من يمتلك المعلومة يملك القرار. ومع الذكاء الاصطناعي، أصبح هناك وسيط جديد بين الإنسان والمعلومة. هذه النماذج لا تزودنا فقط بالإجابات، بل تختار لنا كيف نطرح الأسئلة. وهذا في حد ذاته نوع جديد من السلطة: سلطة تشكيل الوعي.
أنا لا أعارض استخدام الذكاء الاصطناعي، بل أستخدمه وأستفيد منه. لكنني أرفض أن أترك له سلطة التفكير بدلاً عني. لا أريد أن أعيش في عالم تعطي فيه الآلة الإجابة النهائية عن كل شيء، من الأمراض حتى معنى الحب. لأن هذا، ببساطة، يلغي المعاناة البشرية التي تشكّل جوهر الحكمة.
إذا استمر العرب والمسلمون في هذا المسار الاستهلاكي للتقنية، فإنهم سيكررون مأساة الماضي: حين أصبحنا نستورد المطبعة بعد قرون من استخدامها في أوروبا، ونقرأ الفلسفة الأوروبية دون أن ننتج فلسفة تخصنا. علينا أن ننتقل من موقع “المستهلك المتفرج” إلى موقع “الفاعل والمساهم”.
ولا يعني ذلك فقط بناء شركات تكنولوجيا، بل بناء خطاب معرفي وفلسفي وأخلاقي يواكب الذكاء الاصطناعي، يتفاعل معه، ويعيد تعريفه من داخلنا، لا من خلال استيراد معايير جاهزة. يجب أن يكون لدينا مركز تفكير، مراكز أبحاث، فلاسفة، مبرمجون، وكتّاب، يعملون معًا لتشكيل هوية عربية في عصر الذكاء الاصطناعي.
السؤال الأخلاقي لا يُطرح بما يكفي. معظم ما يُكتب اليوم عن الذكاء الاصطناعي ينحصر في حدود الكفاءة والإنتاجية. لكن ماذا عن المسؤولية؟ من يحاسب الآلة حين تضلل؟ من يحاسب الشركات حين تُنتج نماذج منحازة؟ من يضمن أن الذكاء الاصطناعي لا يتحول إلى أداة قمع جديدة باسم “الخوارزميات الذكية”؟
 لا يجوز لنا أن نتعامل مع هذه الأسئلة على أنها ثانوية. بل يجب أن تكون في صلب الحوار. مستقبلنا ليس رهين ما تستطيع الآلة أن تفعله، بل بما نسمح نحن لها أن تفعله. السؤال الأخلاقي هو ما يضمن أن تظل الآلة خادمة للإنسان، لا سيدًا عليه.
الانبهار لا يكفي. وأنا على يقين أن لحظة الاندهاش هذه، مهما طالت، ستذوي مع الوقت. ما سيبقى هو أثر الذكاء الاصطناعي على التعليم، على العمل، على الفكر، وعلى الإبداع.
 يجب ألا نسمح لأنفسنا بأن نكون فقط مستهلكين لهذه التقنية. يجب أن نعيد هندستها بما يعكس قيمنا ورؤانا. وهذا يتطلب استثمارات في البحث، وتطوير مناهج أخلاقية محلية، ومشاركة فعّالة في صياغة مستقبل هذه التقنية.
الذكاء الاصطناعي هو مرآة. وإن وقفنا أمامه بانبهار فقط، لن يعكس سوى سطحنا. أما إذا دخلنا فيه فكرًا وفلسفة وقيماً، فسيصبح جزءًا من مسيرة حضارتنا، لا مجرد لعبة رقمية عابرة.