د. جمال لعبيدي ود. أحمد رضوان شرف الدين: تأملات حول قضية الهوية في السياق الجزائري… الهوية في ظل النزاعات

د. جمال لعبيدي ود. أحمد رضوان شرف الدين: تأملات حول قضية الهوية في السياق الجزائري… الهوية في ظل النزاعات

 

 

د. جمال لعبيدي و د. أحمد رضوان شرف الدين

الجزء الثاني:
في الجزء الأول من هذه المقالة، سردنا العناصر المختلفة المكونة لهوية الأمة: اللغة والثقافة والأرض والتاريخ والرغبة في العيش المشترك. وأكدنا كذلك على وجوب أن تكون هذه العناصر مشتركة بين الجميع، الأمر الذي يؤسس مصطلح الهوية، أي الحقيقة التي تميز شخصا وأمة عن غيرهما. لذا يجب أن تتوافق تلك العناصر مع بعضها البعض وإلا دخلت في نزاع.

قضية  وجودية
عندما لا تتطابق عناصر الهوية قد تصطدم مع بعضها البعض وتتنازع، فتزعزع التوازن القائم وتضغط باتجاه مراجعة مكانة هذه العناصر. يحدث ذلك بالنسبة للإقليم واللغة بصفة خاصة، لأن التطابق ينبني عادةً على هذين العنصرين لكونهما أهم عناصر الهوية. قد تكون هناك مطالبة بإقليم جديد للغة، أو حاجة إلى التوفيق بين اللغة والإقليم، فنكون عندئذ أمام شكل من أشكال الانفصال قد يتخذ طابعا حادا وحتى عنيفا.
هناك حالات أخرى: قد لا تمتلك اللغة إقليمًا خاصًا بها، كما هو الحال مع الأكراد، أو قد تتعايش لغة مع أخرى في نفس الإقليم، الخ.
في جميع أنحاء أفريقيا، رسم الاستعمار حدودًا تجاهلت اللغات والهويات وأقاليمها، وبالتالي حدودها. هذا هو سبب العديد من الصراعات، لكن مثل هذه الصراعات يمكن أن تنشأ في أي وقت وبطرق غير متوقعة. كان هذا هو الحال مع انهيار الاتحاد السوفياتي الذي خلق مشاكل من هذا النوع: أقليات ناطقة بالروسية في جمهوريات مستقلة أخرى، أو أقليات غير ناطقة بالروسية في قلب روسيا، مثل الشيشان. يمكن أن تكتسب النزاعات الناتجة عن هذه الأوضاع، مثل النزاع في أوكرانيا أو النزاع حول تايوان، أهمية عالمية، لا سيما في ظل وجود صراعات بين القوى العظمى، فلا ينبغي الاستهانة بقضايا الهوية إذن.
دائمًا ما تحدث النزاعات حول الهوية على خلفية التدخلات الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة، كاشفة عن أمم لا تزال هشة البنيان. والاستعمار نفسه، من بين جوانب أخرى، هو أحد أشكال نزاعات الهوية إذ تسعى القوى الاستعمارية عمومًا إلى فرض هويتها الخاصة على البلدان التي أخضعتها، كعلامة على هوية مسيطرة. هذا يفسر الطابع المزدوج والملتبس لنزاعات الهوية والذي يتجسد في التحرير وتعزيز الوحدة حينًا، وفي تمزيق النسيج الاجتماعي حينًا آخر.
إن استمرار فئات اجتماعية التحدث بلغة الاستعمار، مثلا، بينما تطالب البلاد بلغتها وثقافتها الوطنية يمكن اعتباره جانبا من جوانب حركات إزالة الاستعمار ويندرج ضمن النزاعات حول الهوية. وهذا من شأنه أن يخلق هويات مُضطّربة ونزاعات لغوية واجتماعية في آن واحد، مثل إشكالية ” المعرب والمفرنس” في المغرب العربي. وهذا بدوره سيؤثر على قضايا ملحقة أخرى تتعلق بالهوية (البربرية، الإسلام، إلخ)، أو قضايا اجتماعية وسياسية (لغة التعليم، لغة الإدارة، لغة مراكز السلطة والمؤسسات)، أو قضايا اقتصادية (لغة الشغل، لغة الأعمال)، مما يخلق أوضاعا معقدة للغاية حيث قد يصعب تمييز الدور أو التأثير الحقيقي لكل عامل: لغوي أو ثقافي أو ديني أو اجتماعي بالإضافة إلى تأثير النفوذ الأجنبي.
ولأن قضية الهوية قضية وجودية، تتطلب معالجتها عناية فائقة، فالنزاعات حول الهوية تبرز حتما أقلية وأغلبية، ويمكن أن تلحق الضرر بإرادة العيش معًا عندما تتطور إلى تناقضات وصراعات. عندئذ قد يترتب على ذلك أن تظهر الأقلية الرغبة في الانتقال من هوية أقلية، إذا رأت فيها عائقاً أمام تطورها، إلى هوية أغلبية من خلال الانفصال الذي سيسعى آنذاك إلى تحقيق تطابق الحدود الإقليمية مع الحدود اللغوية، في جو وخطاب عاطفيين بشكل عام.
نزاعات الهوية وحلولها
شهد التاريخ حلولاً عديدة، متفاوتة النجاح، لهذا النوع من النزاعات: حل تعسفي من خلال الاستيعاب وحلول متدرجة من خلال التعليم وتحقيق الوحدة حول لغة الأغلبية. إن التاريخ قد أخذ على عاتقه أحياناً حل هذه المشاكل مع مرور الوقت، من خلال انتشار اللغة الأكثر حيوية اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجياً وثقافياً، كما كان الحال مع الأمم الغربية، أو مع اللغة العربية في أوج الحضارة العربية الإسلامية.
كان أحد الحلول المؤامة وربما الأكثر توفيقا تاريخيا هو الاستقلال الذاتي. هذا الحل يقوم على جعل الحدود اللغوية تتطابق مع الحدود الإقليمية من خلال إيجاد مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، ولكن مع الحفاظ على الحدود الوطنية المشتركة على شكل خط منقط، إن جاز التعبير. في الوقت الذي تكتسب فيه مسألة الصعود الاقتصادي أهمية حاسمة، يكتسي الاستقلال الذاتي ميزة خاصة تتمثل في الاستفادة من الوظيفة التجارية للغة، من خلال جعل لغة الأغلبية ناقلاً للمبادلات التجارية وعاملاً موحداً للسوق الوطنية.
بالطبع، لا يخلو الاستقلال الذاتي من مخاطر على الوحدة. كثيرة هي البلدان التي كان الوئام يسود فيها ظاهريًا ووجدت نفسها في عواصف هوجاء. ومع ذلك يمكن اللجوء إلى مثل هذه الحلول بأمان أيضًا عندما تكون مشاعر الوحدة وإرادة العيش معًا قوية جدًا، فتكون حلولا ناجحة: هذا هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي وسويسرا وغيرها.
تزداد هذه الرغبة في الوحدة قوةً خاصةً في حالة الأمم التي يوجد فيها تكامل قوي بين الأقلية اللغوية والأغلبية، إلى جانب توافق وثيق مع عناصر الهوية الأخرى مثل توفر تاريخ ودين مشتركين وتداخل بين الأقاليم.
تستلزم الأمة وجود عوامل الوحدة، لكن الكمال لا وجود له، وهناك دائمًا اختلافات وشروخ تعمل التدخلات الأجنبية على توسيع نطاقها. تتمثل هذه الاختلافات في العامل الديني حيث تتعايش أديان مختلفة، وفي هذه الحالة، يجري الُسعي للوحدة من خلال العامل اللغوي، كما هو الحال في بلدان عربية مثل لبنان والعراق، وغيرهما، حيث تُشكل العروبة إسمنت الوحدة. وفي حالة وجود شروخ لغوية، يمكن البحث عن الوحدة إما في العامل الديني، كالإسلام مثلاً، الذي يقع ترقيته إلى درجة عالية جدا، كما هو الحال في العديد من البلدان العربية أو الإسلامية، وإما في التاريخ المشترك، كما هو الحال في الجزائر، حيث يُعدّ النضال التحريري أداةً فعّالة لتوحيد الأمة.
يكاد يكون هذا رد فعلٍ للبقاء وللدفاعً عن الوحدة الوطنية، بالاعتماد على عوامل أخرى للهوية التي كانت ثانوية، في وقت من الأوقات، ثم أُصبحت رئيسية في سياق آخر. هناك قوى ضيقة الأفق سمحت لنفسها إصدار أحكام على مجتمعات أو شعوب أو أمم لجأت إلى مثل هذه الوسائل للحفاظ على وحدتها، كلجوئها إلى دعم الهوية الإسلامية أو الهوية العربية، في بعض مراحل تاريخها.
الهوية والديمقراطية
كانت القومية العربية عامل توحيد في وجه الهيمنة الأجنبية، وقوة دافعة للتقدم والتحرر الوطني. وتجلى هذا بوضوح في الفترة الممتدة من خمسينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي. ثم أدى استبدادها وافتقارها إلى الثقافة الديمقراطية وازدراؤها أحيانًا للأقليات، إلى نشوء قوى دينية وثقافية – عرقية طاردة، وإلى صراعات سرعان ما استغلتها القوى الغربية وشجعتها. وقد أنهى هروب بشار الأسد إلى روسيا هذه المرحلة التاريخية من القومية العربية.
ومن المفارقات العجيبة أن حركات “الربيع العربي”، وإن كانت تشهد بعض الشيء على الوحدة العربية من خلال تزامنها، إلا أنها كشفت أيضًا عن نقاط ضعف تلك الوحدة؛ فالقومية العربية اليوم أمام حتمية تاريخية لاكتساب مشروع يكون جاذبا ومقنعًا على قدر مضمونه الديمقراطي. إن حركات “الربيع العربي”، التي لا ينبغي أن نتناساها على عجل، بحجة تعرض مساراتها للتحريف، قد أبرزت هذه الضرورة بوضوح في جميع البلدان العربية. يجب التعامل مع عوامل الهوية، وخاصةً اللغوية، بحذر شديد، بل بلباقة كذلك، لما لها من حساسية بالغة، نظرا لارتباطها بالشعور الاجتماعي الرئيسي، بل والأنثروبولوجي للكائن البشري، ألا وهو الانتماء.
لا توجد وصفة سحرية. لكن يوجد عامل يبدو حاسمًا، لا سيما في حالة نزاع مضمر حول الهوية، أو حتى في حالة نزاع علني: عامل الرغبة والإرادة في العيش معًا، رغبةٌ بناها الزمن، التاريخ وإرث الأجداد. لذا يجب رعاية هذه الرغبة بحرص شديد، لأنها قد تكون هشة، مهددة، فضلا عن شحنتها الذاتية العالية مقارنة بعوامل الهوية الأخرى: هذا هو دور السياسيين الذين ينتهجون سياسة متبصرة.
إذا كان هناك مجالٌ واحدٌ تُعد فيه الديمقراطية حيوية، فهو المجال المتعلق بمسألة الهوية. ولهذا السبب غالبًا ما تبرز المطالب الديمقراطية، تلقائيًا تقريبًا، بمجرد ظهور قضايا الهوية. وهذا يُبين، على المستوى السياسي، ربما أكثر من أي مستوى آخر، ضرورة احترام حرية التعبير.

المقال القادم، – الجزء الثالث:” الهوية وحرية التعبير”