الأخطاء الإيرانية وتصحيح المسار!

خالد شحام
لأول مرة ومنذ أحداث السابع من أكتوبر نعيش دقائق فريدة من نوعها فيما نرى يافا وحيفا المغتصبة تتلقى قطع النار الساقطة من السماء وتحقق ضربات مباشرة في قلب العدو الصهيوني ، عدو العرب والمسلمين والعالم بكل أطيافه ، ومع افتتاح العدوان الإرهابي على ايران وحدوث الرد تكون منطقة الشرق الأوسط قد انتقلت إلى المستوى الثاني من الاصطدام والمواجهة الحقيقية ، حيث تكفل المستوى الأول وفقا لحسابات العدو بالإطاحة بالنقاط البؤرية الأصغر المقاوِمة للمشروع الأمريكي -الصهيوني في الإقليم ويأمل من المستوى الثاني الوصول للغاية الأكبر.
مساء الخميس الماضي ولدى إطلالة الرئيس الأمريكي على واجهة الأخبار وهو يمارس الكذب والمرواغة في حديث تهريجي ما بين التلويح بالاعتداء وبين الاقتراب من اتفاق آمن وعادل ، كانت كل النذر تؤكد بأن قرار الهجمة على ايران قد دخل فضاء التنفيذ العملي بشكل مؤكد بعد أن ظل حبيس الأدراج لسنوات طويلة ، وتعيدنا تصريحات يوم الخميس إلى تلك الحملة التحريضية على العراق قبيل الغزو ، حيث أعيد نفس السيناريو ولكن هذه المرة بالمنطق الترامبي المتهور والذي يحب القرارات العاجلة .
وحتى نفهم مجريات هذه التطورات المتوقعة ، دعونا نرجع إلى الحقائق الأصلية غير المزيفة وهي عادة الحقائق الناطقة بلسان حالها دون اللعب عليها ، فايران والنظام الحاكم فيها يمثل عدوا خاصا للولايات المتحدة التي لا يمكن أن تنسى الإطاحة بحليفها الشاه الايراني في العام 1979 وإعتلاء الثورة الإسلامية دفة الحكم في هذه البلاد ، منشأ هذه العداوة يعود إلى سببين بسيطين للغاية أولهما أن الولايات المتحدة تلقت هزيمة لا يمكن محوها من سجلها ويجب ردها في الوقت المناسب ، الثاني ان هذه الايديولوجيا في المنطقة بفوزها وتمكنها من الحكم تشكل خطرا وجوديا على فكرة الاستعمار بحكم كونها ثورة إسلامية شعارها الموت لأمريكا واسرائيل ، لم يأت رئيس أمريكي أو رئيس وزراء صهيوني إلا وحاول الإطاحة بالنظام الايراني دون فائدة ، لقد جيء بترامب كثور هائج أخرق لكسر كل الروتين السابق والإطاحة بهذه الظاهرة الخطرة جدا على الكيانات الاستعمارية بسيبب قابليتها للانتشار وقدرتها على صنع مواجهة حقيقية في الشرق الأوسط.
لقد كانت عملية التفاوض حول البرنامج النووي مجرد فخ تعلم ايران تماما بأنه غير قابل للتحقق ، حيث صرحت ايران بالمباشر بأنها تدرك عواقب تخليها عن البرنامج النووي وتعلم جيدا ما هو اليوم التالي لذلك تعلما للدرس بما جرى لنظام صدام حسين الذي انطلت عليه حيلة الأمان مقابل (تفكيك أسلحة الدمار الشامل وحملات التفتيش على المنشآت العراقية ) حيث جرى التحقق أولا من إفلاسه من القدرات الحقيقية ثم جرى حصاره وخنقه ثم الانقضاض عليه ، لم تتمكن العقلية القيادية في ايران من التعامل بالروح الثورية الإسلامية بالقدر الصحيح مع المتغيرات ، وتقبلت بعض التنازلات والصيغ المخففة التي لم تكن بمقاس الثورة الإسلامية في نسختها الأولى ، نتيجةُ ذلك كان الاعتقاد بأن النسيج العالمي والدولي قادر على منح ايران بعض الثبات والحماية وإغلاق فم الوحش الامبريالي الذي عاد بقوة على يد عصابة ترامب -نتانياهو والفريق المتصهين المتزمت الذي جيء به خصيصا لصناعة النظام العالمي الأمريكي الجديد الذي كانت فاتحته بالهجمة الوحشية على غزة ، لقد تغافلت ايران عن النظر في كثير من التفاصيل الصغيرة التي تجمعت في النهاية لتصبح غشاوة عن رؤية المواجهة القادمة بحق البلاد و يمكننا اجمال الاتي في هذا الشأن :
1-لم تتخذ ايران القفزة الصحيحة في رؤية معطيات الميدان المتتالية والتي اوصلت السياق الى النضج ومواجهة هذه الحقيقة ، في البداية كانت عملية تحييد الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي ووزير خارجيته عبد الأمير لهيان هي الحلقة الأولى لما لهذه الشخصيات من ثقل وتوجهات ، ثم اتت الانتخابات بالرئيس الحالي بزكشيان بينما كان المناخ السياسي الذي يخيم على المنطقة يتطلب رئيسا من تصنيف أحمدي نجاد ، جاءت الهجمة على لبنان و حزب الله وقياداته لتكون الحلقة الثانية الأخطر في سلسلة تفكيك الكتل الثورية المناهضة للمشروع الصهيوني ، ثم جاءت مهلكة سوريا عقب ذلك وكانت تلك كارثة منذرة بأن أيام السوء تلوح في الأفق ليس لإيران وحدها بل لك الدول والعرب ، ولم تحسن ايران قراءة كل ذلك بأنها هي المطلوبة في نهاية السلسلة.
2-قبلت ايران دخول المفاوضات بذات العقلية التي “تتأمل خيرا ” من حزب وحلف شيطاني لا غاية له سوى سلوك الإبادة الذي ظهر جليا في غزة ، ومنطق اللااتفاق ولا ضمانات ولا عهود والذي ظهر جليا مرة أخرى في غزة ولبنان وسوريا ، ومنطق الإذلال والتصغير والذي سوف يستولي على مجهود كامل من عمر الثورة الاسلامية ويضعه تحت العباءة الاسرائيلية لتكون ايران بلدا يتصرف كما تفعل دول عربية كبرى تم مسخها وتحويلها إلى علبة مقرمشات أو حصالة تحويش للفكة في يد الامريكان والصهاينة ، لقد قبلت ايران ضمن خديعة المفاوضات الجارية بإنزال نسبة التخصيب الى 3-4% وهي نسبة تخصيب لا تؤهل لتصنيع قنبلة ذرية ، وقبلت كذلك بالتنازل عن الكنز الثمين الذي جمعته طيلة هذه السنوات المريرة من المجهود والانفاق والتضحية وهو 480 كغم من اليورانيوم النظير 235 عالي التركيز بنسبة 60% والذي يؤهل ايران فورا لانتاج عشرة قنابل نووية صغيرة كافية لردع أي عدوان ، ومع كل ذلك لم يرضى عنها ، لقد كان المنطق يقول بان هؤلاء لا يفهمون سوى لغة القوة المفرطة مهما كانت العواقب وبغير ذلك فالكل متدحرج بقدميه نحو الهاوية الامبريالية وفاقد لهويته ومصيره ومستقبله .
3-إن حلف شمال الأطلسي الأوروبي يمثل شريكا رسميا في الاعتداء على ايران ، وليس من المستبعد أبدا بأن التنفيذ تم بتحالف من الطيران الأمريكي والبريطاني والاسرائيلي وربما العربي وقريبا الفرنسي ، إن ايران تدرك تماما بأنها تواجه حلفا شاملا ضخمــا يمتلك من مؤهلات القوة والسياسة ما لا يستهان به ، وفي ظل تحييد روسيا والصين اللتين تميلان الى الركون في مواجهة التوحش الأمريكي ، وفي هذا الصدد لم تتمكن الجهود السياسية الايرانية من اللعب الصحيح لتفكيك هذا الحلف أو صناعة ما يوازيه .
4- لم تتمكن ايران من قراءة وفهم زيارة ترامب الخطيرة جدا إلى الخليج العربي ، ولم تتمكن من التمعن في معاني التريليونات الخمسة جيدا والتي تم وضعها في يده الملعونة والتي كانت بمثابة الإعلان صراحة من خلال هذا الرقم انفصال الخليج عن الجسد العربي والإسلامي وإشهاره كعضو في النظام العالمي الجديد ، إن هذا الرقم يحمل في باطنه أثمانا كثيرة لمهام خطيرة على مستقبل المنطقة ، وربما بات واضحا الان أن جزءا منه مخصص لإيران .
5- إن الجغرافيا الايرانية تتضمن قوميات متعددة وتتمتع بقابلية الاختراق للحدود ، وليس من الضروري أن يكون كلها راضيا عن نظام الحكم في ايران وهذا ما كان المجرم نتانياهو يخاطبه بالأمس عندما طالب شعب ايران بالثورة على النظام ، إن ما حصل مع قيادات حزب الله لا يعد درسا لمحور المقاومة فقط بل هو درس عميق في التكتيك والاستراتيجيات طويلة المدى في الإعداد وبرمجة الضربات الداخلية المبيتة ، لم تتخذ ايران هذا الدرس بعين المتعظ واليقظ جيدا لتحركات وعمليات الاختراق الداخلية الكثيرة ، لقد صعقنا جميعا عندما فؤجئنا صبيحة يوم الجمعة بهذا العدد من الشخصيات الثقيلة والخبيرة التي توزن الذهب والتي راحت ضحايا لهذه الاعتداءات مما يؤكد خضوع ايران لعمليات تجسس واسعة ودقيقة ومستمرة لاصطياد هذه الشخصيات التي كان يتوجب توفير اعلى درجات الحماية والتضليل حولها ، إن الخطة الصهيونية الواضحة تتمثل في تكسير أعمدة النظام الحاكم في ايران ، ولن نستغرب اذا جرت محاولات مستميتة للنيل من المرشد الأعلى والرئيس الايراني ، والهدف من ذلك واضح طبعا بصعوبة تحطيم البرنامج النووي واحتمال تلويثه للمنطقة في حال تمت اصابة المواقع التي تخزن اليورانيوم المشع .
حيال هذه العثرات الناجمة عن ايران تأتي عثرات حلف اليهودية الصهيونية الأمريكي -الاسرائيلي -العربي ، فإن كانت عثرات ايران ناجمة عن حسن نوايا أو ضعف تقدير لما تواجهه أو تفسره فإن عثرات هذا الفريق ناجمة عن الاستكبار وعمى الغرور بالقوة والتقنيات والثروات وسعة الامكانيات :
1-الخطأ الأول هو الاستكبار ، والنظر للجانب الايراني كخصم هزيل وضعيف خاصة بعد تقلص النفوذ والقوة الايرانية خلال السنتين الماضيتين ، دعونا نستذكر الرئيس السابق اوباما خلال دورته الرئاسية عندما جمع فريقا من العسكريين وعلماء مفتشي هيئة الطاقة الذرية وسألهم اذا كان بالامكان إزالة البرنامج النووي من الوجود فكانت الاجابة هي استحالة ذلك ، لقد حاول كل رؤساء الولايات المتحدة وكل وزراء الكيان خلال وجودهم أن يفعلوا هذه الفعلة لكنهم فشلوا بشدة ، وما يفعله المهرج ترامب ليس خارج هذه الفكرة.
2- الخطأ الثاني هو إظهار ريش الطاووس ، الايحاء بعظمة القوة والمنعة وامتلاك قوة غير محدودة ، لقد تمادى الكيان الصهيوني في غيه وعدوانه ومنح اضافات واكاذيب فوق جرائمة لإظهار هالة من القوة والصلابة ، كل هذه الدعاية المضللة التي تهدف الى تحطيم معنويات الشعوب العربية والاسلامية تحولت الى عكس مرادها بمجرد تساقط الصواريخ الايرانية على يافا وحيفا وتكشف حجم الدمار الواسع الذي لحق بالعدو وتعطيل حياته تماما لأجل غير محدود نتيجة ضربات ناجحة في عمق مدنه .
3- خطأ الاعتقاد بأن حركات المقاومة العربية مجرد فصائل مؤتمرة بأمر ديني عسكري من ايران ، وأنها لا تمتلك مبادئها ولا كرامتها ولا مواقفها الخاصة أو توجهاتها التحررية ، وانها بسقوط ايران تفقد كامل قوتها ، إن الكيان يجلس في قلب النار ويظن خاطئا بأنه في أمان مصطنع بالقتل والاعتداء .
4- خطأ التقدير الاقتصادي للتعبات العالمية لاشتعال الحرب ، لقد جاء ترامب المخادع الكاذب تحت دعاية ترويجية كبيرة بأنه مجرد ساعٍٍ إلى السلام وأطفاء الحروب وأنه رجل صفقات وتجارة وإحياء المجد الآمريكي ، ومن الواضح أن الحقيقة هي غير ذلك تماما فهو جزء من دائرة الاجرام وسفك الدماء والاستيلاء على حقوق الشعوب ، ولن يمر هذا الكلام دون دفع الثمن بارتفاعات غير مسبوقة في كلف الطاقة والنفط والنقل الجوي والبحري وسائر مجالات الاقتصاد.
5-الخطأ المستمر بالاعتقاد بإمكانية إزالة البرنامج النووي : نقلا عن صحيفة فايننشال تايمز في مقابلة مع رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافييل جروسي الأرجنتيني يقول المذكور بأنه في أثناء زيارته لإحدى المنشآت النووية الايرانية في منشأة فوردو في محافظة قم في قلب الجبل الجرانيتي ، يصف الرجل كيف نزل في طريق حلزوني لمسافة 800 متر الى تحت الجبل حيث وحدات IR9 للتخصيب ! ليس الرقم الذي ذكره الرجل هو المذهل بل المذهل هو ارادة هذا الشعب الذي حفر الصخر واشتغل واستمر رغما عن كل الصعوبات والعقوبات والتحديات وضيق الحال في صناعة اداة الدفاع ضد اعداء الجمهورية الاسلامية ، هذه العزيمة التي صبرت وتحملت ومشت على خط النار طيلة هذه السنوات لن يهزها دولة مارقة ولا حلف الاطلسي ولا زعرنات الترامب المهرج ،
6- الخطأ السادس ، إذا كان بيتك من زجاج فلا ترجم بيوت الناس ، يافا أو (تل أبيب ) الجميلة المضاءة بكل ألوان الفرح والاقتصاد والحياة لا يمكنها تحمل أية معكرات للصفو ، فإذا كانت عصابة الكيان تؤمن بأنها منيعة أو أن القبب الحديدية ستوفر لهم الأمان فهم مخطؤون وقد أثببت ايران ذلك بالأمس وبجدارة .
إن الوضع الذي نعايشه ونعاصره ونرى فيه ما نرى لا يدعونا إلا لأسف كبير على حال هذه الأمة التي يكيل لها الأعداء الضربات من كل حدب وصوب وكأنها خلقت فقط كي تتلقى الصفع واللطم ، انظروا جيدا لتشاهدوا ما تفعله مملكـة التلمــود التي تنهض من رماد التاريخ ، انظروا حيثما حلت أو حيث سارت في غزة ولبنان وسوريا واليمن والعراق وليبيا وسائر الأوطان المصابة بهذا الوباء من داخلها وكيف تركت وراءها الخراب والفساد والدم والقتلى ، ما يجري لإيران ليس شيئا خاصا بايران ولا هو بمعزل عن هذه البلاد التي تخلت عن الرسالة وبدلت الدين ومنحت نفسها للغزاة ذوي العيون الزرق الذين عادوا في سفينة كولومبوس الترامبي مرة ثانية ، نحن الان كعرب ومسلمين نواجه المصير الأخير، ونجلس على حرف السكين .
إذا وافق العرب على ما يجري في ايران وأثبتت الحقائق بأنهم شركاء في هذا العدوان كما كانوا شركاء في دم غزة ولبنان وسوريا فهذا يعني انتظار ثلاث ليال سويا ، والأيام القادمة ستحمل نذر السوء ونواتج عقر الناقة ، هذه الأرض العربية سوف تؤخذ غصبا ، لن تكون هنالك مياه عذبة للشرب ولا أرض صالحة للزراعة ولا حريات دينية ولا سياسية ولا معيشية ، إن ايران مهما كان رأينا في سياساتها أو توافقا او معارضة لها تمثل حجر عثرة ثابت منذ أكثر من أربعين سنة ضد المشروع الامبريالي الذي سيبتلع كل هذه البلاد ولن يرحم أحدا أو شيئا ، وفي نهاية المطاف ستبقى ايران ويبقى الثابتون على النهج والمبدأ ويزول الطغاة والمجرمون.
كاتب عربي فلسطيني