زياد جيوسي: تأملات واستفسارات بشأن رواية سادن المحرقة

زياد جيوسي
“سادن المحرقة” رواية مختلفة عمّا قرأتُ سابقًا مما يُطلق عليه عادةً “أدب السجون”، وقد سبق لي، في أكثر من مقال نقدي وندوة متخصصة، أن أطلقتُ عليه “أدب الصمود”. فأدب السجون مصطلح عام يُطلق على كل ما يُكتب داخل السجون، بغض النظر عن خلفية الكاتب أو سبب سجنه، بينما “أدب الصمود” يعكس مقاومة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، ويُعبّر عن مواجهتهم للسجّان بالكلمة والموقف.
عنوان الرواية “سادن المحرقة” يعني حارس المحرقة، وهي تشير إلى ما يُعرف بالـ”هولوكوست”، التي يدّعي الاحتلال أن هتلر خلالها أحرق ملايين اليهود. هذا الادعاء، الذي كثيرًا ما شابه التهويل والتزوير التاريخي، تم استخدامه لبناء سردية صهيونية تبريرية وتضخيم الأعداد بشكل أكبر من عدد اليهود في العالم في الحرب العالمية الثانية، رغم أن من تعرّض للحرق لم يكونوا اليهود وحدهم، بل شمل ذلك الغجر وغيرهم من فئات المجتمعات التي خضعت للاحتلال النازي.
ما يميز هذه الرواية للأسير باسم خندقجي أنها الثانية ضمن ثلاثية روائية، رغم استقلال كل جزء نسبيًا وإن تكررت بعض الشخصيات. الجزء الأول كان بعنوان قناع بلون السماء، والثالث لم يصدر بعد. وقد فازت الرواية الأولى بجائزة “البوكر” للرواية العربية. يُذكر أن الكاتب، الذي اعتُقل وهو طالب في جامعة النجاح، محكوم بثلاثة مؤبدات، وقد قضى في الأسر سنوات تفوق ما عاشه خارج المعتقل. أنجز روايته الثانية عام 2022 في معتقل “هداريم” الصهيوني، رغم صعوبات الكتابة والرقابة وضرورة تهريب المخطوطات للخارج، ما يجعل هذا الإنتاج فعل مقاومة حقيقيًا، ويستحق وصف “أدب الصمود” .
الرواية جاءت في 215 صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع عام 2024. الغلاف صمّمته نجاح الطاهر، ويصوّر في واجهته الأولى بيوتًا تراثية فلسطينية وطفلًا ملثّمًا بالكوفية يرمي الحجارة في وجه جندي صهيوني، بينما تضم الواجهة الخلفية فقرتين: الأولى تعريف بالكتاب، والثانية بالكاتب، بصفته شاعرًا وروائيًا فلسطينيًا، دون الإشارة إلى كونه أسيرًا في سجون الاحتلال.
الإهداء كان موجهًا إلى صوفيا وأمها نور وأبيها يوسف، دون توضيح صلة القرابة أو العلاقة بينهم وبين الكاتب، رغم المخاطبة لوالديها بعبارة: “قولا لها كم هي حلمي”، مما يُشير إلى أن صوفيا طفلة. أما التوطئة، فاشتملت على اقتباس من جوزيف كونراد وكتابه قلب الظلمات، واقتباس من محمود درويش من قصيدة عندما يبتعد.
اعتمدت الرواية على السرد بلسان “أور شابيرا”، وهو صهيوني خدم في وحدة نخبة بجيش الاحتلال، يكره العرب ويقتلهم بلا رحمة، وشارك في معارك في غزة ولبنان وفلسطين المحتلة. لكن الكاتب أضفى على الرواية أبعادًا خيالية، مستخدمًا بعض عناصر الغرائبية. “أور” هو نفسه الشخص الذي وجد هويتة “نور” (شخصية الجزء الأول قناع بلون السماء) داخل معطف قديم اشتراه، فاستغل الهوية وغير صورتها بصورته، واستخدمها في أكثر من مجال، منها التنقيب عن الآثار.
كشفت الرواية النظرة العنصرية المتجذرة لدى الصهاينة تجاه غير اليهود، الذين يُعتبرون “أغيارًا” خُلقوا لخدمة اليهود، حتى لو قاتلوا معهم وماتوا لأجل “دولة الكيان”، إذ يُدفنون خارج المقابر اليهودية. وقد تربّى “أور” على هذا المفهوم منذ الطفولة، ويظهر هذا في مرضه النفسي، حيث يُصاب باضطراب حين يحلم بالعربية، لغة “الأعداء”، فيضطر لتعلمها على يد شابة عربية تُدعى “مريم”، بتوصية من طبيبته النفسية لعلاج متلازمة الصدمة وما بعدها، نتيجة مشاهداته في معارك جنوب لبنان، حين قُتل جميع رفاقه ونجا هو فقط بعد أن اختبأ تحت جثثهم إلى أن أنقذته فرق الجيش.
الكراهية التي يحملها أور – ويشاركه فيها معظم اليهود الصهاينة – تجاه العرب والفلسطينيين، تظهر حتى في انزعاج والده من مجرد سماع كلمات عربية. وتصل العنصرية حدّ اعتبار فيروس كورونا معاديًا للسامية، كما ورد على لسان جدّة أور، في إسقاط ساخر على الاستغلال السياسي لعبارة “معاداة السامية”، رغم أن يهود أوروبا (الأشكناز والسفارديم) لا تربطهم بالساميّة علاقة عرقية مباشرة. في الصفحات (122–125)، تنقل الرواية، بتصرف، شهادة وردت في صحيفة “هآرتس” العبرية بتاريخ 28/10/2006 بقلم “أفيف ليفي”، عن مجزرة ارتكبها جنود الاحتلال في آب 1949 بحق بدو النقب، حيث تم اغتصاب فتاة بدوية صغيرة من قِبل جنود وحدة عسكرية كاملة ثم قتلها بدم بارد. وقد استندت الكاتبة عدنية شبلي إلى هذه الواقعة في روايتها تفصيل ثانوي (2017) .
تُظهر الرواية أيضًا محاولات الاحتلال المستمرة لتزييف أسماء الأماكن الفلسطينية وتحريفها، مثل استخدام “شيخيم” بدلًا من “نابلس”، علمًا أن “شيكيم” هو الاسم الكنعاني الأصيل للمدينة التي ما زالت أثارها في تل بلاطة، قبل أن يبني الرومان مدينة “نيوبولس” في مكان قريب بعد احتلال شكيم وتدميرها، والتي تحولت لاحقًا إلى “نابلس”. وتكشف الرواية كيف تصطدم مريم بأور في كل مرة يستخدم أسماءً عبريّةً مزوّرة، فتُصحّح له الأسماء العربية التاريخية، وتُظهر التشابه بين اللغتين في بعض الألفاظ. كما تشير الرواية إلى محاولات تزوير التاريخ من خلال “علم الآثار”، عبر البحث عن “تابوت العهد” المزعوم، والترويج لخرافة “هيكل سليمان” في القدس.
تلقي الرواية إضاءة على تناقضات مجتمع الصهاينة في دولة الاحتلال، ومثال على ذلك دوريت، عشيقة أور، التي تتحول من علاقة عاطفية معه إلى المثلية، ثم إلى التطرف الديني اليهودي. وكذلك والدة أور التي تخون والده مع زميلها الطبيب في العيادة. كما تتجلى النظرية الاستعلائية لليهود الغربيين القادمين من أوروبا (الأشكناز) على اليهود الشرقيين (السفارديم)، ويظهر ذلك في نظرة أور المتعالية والمحتقرة إلى عومر، السكرتير الطبي لطبيبة أشكنازية تُدعى هداس، وكذلك في تعامله مع أيالا، باحثة الآثار الشرقية من السفارديم، حيث يعاملهم جميعًا بازدراء، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا. وترد عبارة تصف امرأة يهودية بازدراء: “إنها شرقية”.
وتشير مريم إلى هذه التناقضات والخوف العميق لدى الصهاينة بقولها للراوي: “أنتم تخشون على محرقتكم من نكبتنا”، خلال حوار بين أور ومريم الفلسطينية. فالمجتمع الصهيوني مجتمع عسكري بامتياز، حيث يخدم جميع أفراده في جيش الاحتلال، ويُعتبرون جنود احتياط يتم استدعاؤهم للمشاركة في الحروب. فلا وجود لمجتمع مدني مقابل المجتمع العسكري، ويُعدّ مثالًا على ذلك عصابات المستوطنين المسلحة التي تمارس الإرهاب تحت حماية جيش الاحتلال.
تكشف الرواية كذلك عن التزييف الصهيوني للتاريخ وتضخيم ما يُسمى بالمحرقة، والتكتم على المجازر التي ارتكبوها وما زالوا يرتكبونها، والتي بلغت مستوى حرب إبادة بعد معركة أكتوبر 2023، حيث استخدم الاحتلال أقوى الأسلحة وأكثرها تدميرًا، إضافة إلى تدمير المشافي، ومنع إدخال الأدوية والعلاجات، وتجويع السكان عبر منع دخول المواد الغذائية، وتعطيشهم عبر منع المياه والوقود اللازم لتشغيل المضخات ومحطات الكهرباء، حتى تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن.
كما أشارت الرواية إلى ما يُسمى باليسار الإسرائيلي، وهو اليسار الذي صُدم باغتيال رابين على يد يهودي يميني متطرف، رغم أن رابين نفسه له تاريخ دموي في مذبحة اللد عام النكبة، وتحطيم عظام أطفال الحجارة في الإنتفاضة الأولى. واليسار الذي يطلق على نفسه هذا الاسم، يخدم في أسوأ وحدات جيش الاحتلال، والفرق الضعيف بينه وبين اليمين يتمثل فقط في إعلانه دعم السلام مع العرب، لكن بعد أن أكل غالبية “الكعكة” وترك الفتات للفلسطينيين. وقد أشارت الرواية في الصفحة 205 إلى أن الاشتراكية الصهيونية حين نشأتها كانت حلوة المظهر أمام الأوروبيين، لكنها طُبقت على الفلسطينيين والعرب عمومًا “بطريقة نكبوية وبتطهير عرقي عنصري فاشي”. كما تعرضت الرواية في الصفحة 211 لنظرة اليسار الصهيوني للحل، الذي يهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني من خلال تذويبه في دولة الكيان.
في مقابل تعدد الشخصيات اليهودية التي تمثل شرائح متناقضة من المجتمع، تبرز شخصيتان فلسطينيتان: مريم، الطالبة ومدرسة اللغة العربية لأور، وهي من فلسطينيي الداخل، لكنها لم تتخلّ عن عروبتها وهويتها رغم حملها جنسية دولة الاحتلال قسرًا، ونور الشهدي، من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967، المقاوم والمُصر على فضح الاحتلال. نور الذي أصبح كابوسًا يلاحق أور المضطرب نفسيًا نتيجة تجاربه القتالية في نخبة لواء المظليين، وهو الآن مصنف كمعاق نفسيًا نتيجة الصدمة التي تعرض لها خلال المعارك في فلسطين ولبنان، ويخضع للعلاج النفسي.
ومن مفاجآت الرواية أن أيالا، باحثة الآثار، تنصدم حين تتعرف إلى أور، إذ تظنه من أحبته واختفى، فتشكّ أنه هو، بينما المقصود كان نور، الشخصية الرئيس في الرواية الأولى. لكن نور كان قد استخدم هوية أور بعد تغيير صورته، في رحلة استكشافية وعمل داخل القدس وفلسطين. هذا الحدث يدفع أور للبحث عن “أور الآخر” (أي نور) لإرضاء أيالا التي طردها من منزله عندما قبلته من غير رغبته، خاصة لكونها يهودية شرقية. وبعد محاولات مضنية، يكتشف أنه نور الشهدي، الكاتب والناشط الوطني على صفحات التواصل والمدونات الصوتية (البودكاست)، والتي تأخذ حيزًا مهمًا في نهاية الرواية. يتحدث نور خلالها بلهجته المحكية ليفضح ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين من خلال الحواجز، والاقتحامات، والاستيطان، ويقرر إشهار كتابه في “مسافر يطا” قرب الخليل، وهي منطقة تتعرض لحملة شرسة للاستيلاء عليها، ورغم أن لي موقف من استخدام اللهجة المحكية في الأدب، إلا أن هذه المرة بالذات كان استخدامها ضرورة فنية. وأور فكر أن يرافق مريم لحضور حفل الاشهار بعد أن تواصل مع نور تحت صفة صحفي أجنبي يريد اجراء مقابلة معه، ولكن تعطل هذا اللقاء بسبب وفاة والد أور بنفس اليوم، لكن نواياه كانت مختلفة، وتظهر بكلمة (ربما نلتقي) في آخر الرواية، وهذه الكلمة تفتح المجالات على نوايا مختلفة.
تُشكّل أسئلة الهوية والانتماء للأرض محور رواية سادن المحرقة. ففي الرواية الأولى قناع بلون السماء، يروي نور السردية الفلسطينية، بينما في سادن المحرقة تُروى السردية الصهيونية على لسان أور، الذي يُدرك في داخله أن الأرض ليست لهم، وأنهم شتات قادم من بقاع العالم، يحاولون فرض سردية مختلقة. ويتجلى هذا الإدراك في تناقض أفكاره وتضاربها، وفي حواراته مع والده المريض. ولكن يجب الانتباه أن أور لم يشعر بصحوة الضمير أبدا، فهو صهيوني حاقد حتى النخاع، وتساؤلاته التي قد تجعل بعض القراء يظنون أنها صحوة ضمير، لم تكن إلا بسبب مرضه النفسي فقط، فأور هو الوجه الآخر، النقيض لنور، الذي يستند في كيانه إلى القوة العسكرية، وتزوير التاريخ، وتضخيم المحرقة التي يحرصون على أن يكونوا سدنتها، ويقفون في وجه كل من يحاول كشف حقيقتها، كما يسعون لتصوير العرب كقتلة، وإرهابيين، ومغتصبين لأرض “يهودية”، في تزوير صارخ للتاريخ وتحريف متعمد للديانة اليهودية.
تخدم الكاتب الأسير باسل خندقجي أسلوبًا سرديًا مغايرًا، فقدّم السردية الفلسطينية من خلال سردية الطرف المعادي وحديثه، وأدخل عناصر غرائبية في بعض مسارات الرواية. وتمتاز الرواية بأسلوب سهل وممتع دون تعقيد، وتختلف بذلك عن الجزء الأول من حيث اللغة وطريقة السرد. ومع ذلك، فإن الحبكة المعتمدة على تصاعد الحدث ثم فجأة الانتقال لمسار آخر أو العودة إلى الوراء، قد توقع القارئ في نوع من التلبك. ومع كون الرواية جميلة ومميزة، إلا أنها تثير التساؤلات حول جدواها وأهدافها في ظل معركتنا التاريخية مع الصهاينة، خصوصًا مع تساؤلات نور في حلقات مدونة “البودكاست”، التي تختزل قناعتي بأن هذه الأرض في النهاية لا تتسع لشعبين، بل لنا نحن فقط: إما نحن، أو نحن.
عمَّان