لطيفة الشابي: تأمل في “أخطاء جليلة” لعادل الجريدي: كشف لحظة ما… أو نقلة نحو أعماق الذات… أو انزلاق يفتح آفاق الدهشة…

ورقة نقديّة بقلم لطيفة الشّابي
– بطاقة العمل:
العنوان: أخطاء جليلة
النوع: مجموعة قصصيّة قصيرة جدًّا
المؤلف: عادل الجريدي
الناشر: دار الأدب الوجيز
الطبعة الأولى: 2025
– أولى العتبات: العنوان – مفارقة الفكر والشكل
منذ العتبة الأولى، أي عنوان المجموعة “أخطاء جليلة”، يباغتنا الكاتب بتوتر دلاليّ يوقظ السؤال: كيف يمكن للخطأ أن يكون جليلًا؟ هذه المفارقة بين الموصوف والصفة ليست تلاعبًا لغويًّا فحسب، بل مدخلٌ فلسفيٌّ يُؤسّس لرؤية تُقارب الإنسان من زاوية هشاشته، زلّاته، ووعيه العميق المتأخر. الخطأ في هذه المجموعة ليس مجرّد سقطة، بل لحظة كشف، أو قفزة إلى عمق الذات، أو انزلاق يفتح بابًا للدهشة… وربما للهاوية.
– الغلاف: الثقل البصريّ والرمزية الصامتة
يحمل الغلاف لونًا ترابيًا مائلًا إلى البني، يوحي بثقل التجربة، وبعمرٍ داخليّ معقّد تحمله النصوص. في بساطته، يبدو الغلاف كمرآة للمحتوى: لا يسعى إلى الإثارة البصرية، بل يمهّد لرحلة تأمّل، تُراهن على العمق لا على الزينة، وعلى الوقع لا على البهرج. وكأن الذاكرة التي كُتبت بها النصوص معتمدة على خطايا قديمة، وتجارب لم تكتمل بعد.
– عن التجربة: القصر الذي يتّسع
تأتي هذه المجموعة ضمن جنس القصة القصيرة جدًا، ذلك الشكل الأدبيّ المراوغ والمقتضب، الذي يُشبه الومضة من حيث سرعة وقوعه، لكنه كالنصل من حيث وقعه وأثره.
في مئة قصة قصيرة جدًا، يشكّل الجريدي بانوراما دقيقة للحياة في مفارقاتها، واضطراباتها، ومناطق ظلّها. لا يقدّم الحكاية الكاملة، بل يتركنا على تخومها، لنكملها نحن؛ فالقارئ في هذه المجموعة ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في التلقّي والتأويل.
– بين الكثافة والدلالة
يتقن الجريدي اقتصاد اللغة دون فقدان الكثافة، ويبرع في هندسة قصصه كأنها قنابل صغيرة، مشحونة بالتوتر الدرامي، لا تقول كلّ شيء بل تلمّح، وتُورّطنا في التفكير، لا في التسليم.
القفلات غير متوقعة، لا تسعى للإبهار الفارغ بل لكسر النمط، أو خدش التلقّي الآمن. من هنا، تأتي النصوص محمولة على مفارقة، لا تسقط في النكتة ولا في الخاطرة، بل تحتفظ بصلابتها الأدبية وشعريتها الخفية.
– الإنسان في لحظات الانكشاف
في معظم النصوص، نُصادف الإنسان العاديّ، لا في حياته اليومية، بل في لحظة انفضاحه الداخليّ. لحظة تتجلّى فيها الهوية المتكسّرة، أو القيم المهزوزة، أو الذات التي تتعرّى أمام ذاتها.
– قصة “خدعة منمّقة”:
امرأة تتجمّل صباحًا لتخفي هشاشتها، ثم تنهار في المساء. الخطأ هنا هو التزييف، لكنه “جليل”، لأنه يحميها من الانهيار الكامل.
“ينطفئ سحرها ويتلاشى بريقها أمام غسق الأرواح المنكسرة التي اجتهدت في إخفائها طول النهار.”
– قصة “أمّ عزباء”:
الحقيبة تصبح رمزًا للهروب المؤجل، والأمومة تتحوّل إلى قدر قاسٍ لا مهرب منه:
“فتحت الحقيبة من جديد، وبعثرت كلّ ما كان فيها من أدباش، على أن تعيد ترتيب أحلام العودة، ككلّ يوم آخر.”
– قصة “رسّامة”:
تحوّل العجز الجسدي إلى لحظة إبداع. تولد أطفال الألوان حين يعجز الرحم، وتنتصر الفرشاة على الألم.
“باغتتها أوجاع في الظّهر تشبه آلام الولادة، فتحلّق حولها أطفال الألوان.”
– البلاغة الصامتة: اقتصاد وجرح
نصوص الجريدي تمارس بلاغة الحذف لا بلاغة الزخرف. لا مجاز متكلّف، ولا رصف شعريّ، بل جمل قصيرة، مقتصدة، وموحية.
اللغة تجرح لتضيء، وتُلمّح لتفجّر الدلالة. والكاتب يتعمّد التوتّر الأسلوبي في بعض الجمل، لتُصيب القارئ كخنجر خفيف لا يُرى… لكنه لا يُنسى.
– العنوان كمفتاح، لا زينة
أغلب العناوين – مثل “خدعة منمّقة”، “أمّ عزباء”، “رسّامة” – ليست زخرفًا خارجيًا، بل بنية موازية للنصّ. هي عتبات تكثف المعنى، وتفتح المجال للتأويل.
الجريدي لا يكتب من أجل السرد، بل من أجل الإضاءة. لا يقدم أجوبة، بل أسئلة. لا يحكي الواقع، بل يُفكّكه.
– في التأصيل الجمالي والسردي
تُعدّ هذه المجموعة مساهمة جادّة في مشروع القصة القصيرة جدًا في تونس. فهي لا تقع في فخّ التجريب أو التبسيط، ولا تُراهن على المفاجآت المجانية.
إنها تقدم نصوصًا مكتملة فنيًا، متعددة الرؤى، قائمة على أثر لا على صدمة. وربما الأهم من ذلك، أنها تُقدّم “الخطأ” لا كمأساة بل كضرورة وجودية، كمرآة لنا لا عليهم.
– خاتمة: حين يُخطئ الإنسان ليُفهم
في “أخطاء جليلة”، لا يسعى الكاتب إلى إدانة أحد، بل إلى تفكيك آليات الخطأ بوصفه إنسانيًّا وضروريًا. هذه القصص ليست درسًا في الأخلاق، بل تمرينًا في الفهم.
هي سرديات موجزة، لكنها طويلة في أثرها.
هي أخطاء، نعم… لكنها جليلة بما يكفي لتُعيدنا إلى أنفسنا.