محمد المسعودي: حكاية الحنين وبناء الخيال السردي في “سيرة أفول” لمحمد العربي كرانة

محمد المسعودي: حكاية الحنين وبناء الخيال السردي في “سيرة أفول” لمحمد العربي كرانة

 

محمد المسعودي

أخيرا أقدم القاص والكاتب المغربي محمد العربي كرانة على جمع ما تفرق من نصوصه القصصية وجمعها بين دفتي كتاب أسماه “سيرة أفول”؛ وهو كتاب اشتمل، للحقيقة والتاريخ، نصوصا حديثة كتبها القاص خلال فترة اجتياح وباء كوفيد (كورونا) بلادنا وبلاد العالم، ونصوصا كتبها فيما بعد، ولم تضم ما كان قد نشره قبلا -خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات- في الصحف المغربية أو في مجلة أقلام. وهي بذلك قصص تنتمي إلى راهننا تنشغل بهواجس وهموم إنسانية عديدة ومتنوعة مما يعيشه الإنسان في مختلف الأزمنة. وقد حملت المجموعة اسم النص الأخير فيها، وهذا الاسم والوسم وإن كان لقصة من قصص الكتاب إلا أن دلالاته تلقي بثقلها على نصوص المجموعة وتجعل المتخيل السردي منشغلا بموضوعات تتقاطع مع أبعاده ومراميه. ومن هنا أردنا أن نتقصى في هذه النصوص تجليات الحنين في سردية محمد العربي كرانة وكيف تسهم في تشكيل متخيله القصصي.
فأين تتمثل سردية الحنين في قصص الكتاب؟ وكيف تعمل على تشكيل المتخيل القصصي فيها؟
من يقرأ نصوص الكتاب ينتبه إلى مدى ارتباط شخصيات هذه القصص بالذاكرة وارتباطهم بجوانب من حياة ماضية تفعل فعلها في وجدانهم وتشكل طبيعتهم وأفق تفكيرهم وتحكم تفاعلهم مع من حولهم، ولهذا كان الحنين الجارف قاسما عدلا بين أغلب شخصيات هذا الكتاب.
في قصة “معادلة” نلمس هذا الحنين لدى الشخصية المحورية النادلة والساقية والنديمة التي ولى شبابها وترجلت عن عرش الفتنة والإغراء الذي لم تدم على سدته طويلا بسبب المنافسة الشديدة والوافدات الكثر، بحيث تسترجع ملامح من طفولتها من خلال صورتها وهي طفلة، أو صورها قبل الانتكاس في عالم البغي والسقوط، ويرتبط هذا الحنين بنبرة أسف على المضي في طريق لم تجد البطلة نفسها إلا وهي تخوض فيه، إذ كانت ضحية جمالها وثقافتها، فلم تجد لها مكانا في عالم “المجتمع السوي”. وتسترجع لمحات شتى من ماضي طفولتها، وكيف كانت تلفت أنظار الناس، الذين يمسحون على رأسها أو يقبلونها. وعبر هذه الاسترجاعات والرجوع إلى الوراء ثم عبر العودة إلى الراهن نرى كيف يؤدي الحنين دورا حيويا في تشكيل متخيل النص وجعل الشخصية تنسلخ من قهر زمنها الحالي، وهي في ركن منزو من أركان بار الملهى لتسترجع لحظات مشرقة من حياتها بعيدا عن جحيم الخصام والسكارى ومراقبة مدير البار. هكذا كان للحنين دور في تأثيث أبعاد النص القصصي، وكشف معاناة الشخصية، ومدى توزعها بين ماض تعتبره جنة وعالما جميلا، وبين حاضر بئيس تعيش فيه تلبية لنزعة البقاء والاستمرار في الحياة.
وبالانتقال إلى قصة “ذات مساء” التي تجري أحداثها ذات مساء في مقهى وتتشكل من لقاء بين حبيبين تخرجا من الجامعة منذ أربع سنوات، وما زالت لعنة البطالة والعطالة تطاردهما، وقد كان اللقاء بينهما عاصفا متوترا، ألقى الماضي عليه بثقله، وجعل الخلاف بين العاشقين يصل حد القطيعة، أو ما يشي باحتمال وقوعها. ونلمس في طي النص مدى نبرة الحنين التي يروي بها الراوي وبطل القصة جوانب من ماضي علاقته بحبيبته، وما جمعهما من لحظات سعيدة ومواقف إنسانية عميقة، لكن عنصرا من ذلك الماضي انبثق في الحاضر ليخلخل العلاقة ويمضي بها نحو أفق الخلاف والنفور والنشاز: إنه ظهور الطالب الزميل زير النساء الذي اغتنى، والذي عرض على “سلوى” (حبيبة بطل القصة) العمل معه، مما فجر الخلاف بين الشخصيتين المحوريتين، وجعل العلاقة تسير نحو أفق مسدود. وبهذه الشاكلة نلمس كيف يؤدي الارتباط بالماضي، والحنين إلى صفاء لحظات الماضي، أو ما نتوهم أنه كذلك، إلى رفض الحاضر والخوف من الخطوات القادمة المقبلة. وهكذا نتبين كيف يؤدي الحنين دورا في تشكيل المتخيل القصصي وبناء الأبعاد الدلالية في النص.
وفي قصة “الكناوي” نلفي الشخصية المحورية في النص، وهي تعتلي خشبة العروض، تدخل دوامة التذكر والاسترجاع، وباب الموازنة بين الماضي واللحظة الراهنة، لتكشف عن أفول زمن العزة والمجد والكرامة، وولوج زمن المذلة والمجد الزائف وعدم الرضى عن الذات، لأن الواقع فرض القبول والقناعة بما هو قائم. وقد كانت هواجس “الكناوي” -وهو يعيش اللحظة- تعكس الحيرة والأسى وتوغل في حنين جارف لما اندثر وأفل ولا سبيل إلى رجوعه. وبذلك كانت سردية القصة تتمحور حول الحنين وتجعله أساسا لتشكيل متخيل النص وبناء أبعاده الدلالية. ولعل هذا الحنين هو الذي جعل الشخصية تغوص في ذاتها، وتعري أحاسيسها، وتترجم عن خواطرها، ومن ثم أصبح السرد متمحورا حول تصوير أدق مشاعر الكناوي وأحاسيسه، وهو يعيش تحولات العالم من حوله، وتحولات الفن الذي آمن به، وما آل إليه إرث الأجداد من ابتذال وبهرجة. وبهذا كانت سردية الحنين أساس تشكل المتخيل القصصي في النص ومداره، وكانت مناط دلالاته ومراميه وإشاراته.
أما في قصة “النهر” فيتخذ الحنين تجليا آخر يتصل هذه المرة براوي القصة الذي يتقصى علاقة أهل قريته بالنهر، ويمعن في تصوير قصة القرية والنهر عبر وقائع وأحداث متعددة ومتنوعة، ومن خلال تتبع حيوات شخصيات القرية وما خاضته من تجارب وما تفاعلت معه من ظواهر ارتبطت بالنهر أساسا. ويبقى الحنين الجارف الذي يثوي في دواخل الراوي وهو يتحدث عن القرية والنهر، وعن ماضيهما وحاضرهما أساس تشكيل متخيل هذا النص القصصي، كما كان أساس تشكيل متخيل النصوص السابقة، ونصوص أخرى في مجموعة “سيرة أفول”. يقول متحدثا عن علاقته بالنهر:
“.. ونحن صغار، كان النهر بعبعا، وحشا، يخوفنا به الكبار عندما نلج في غينا الصبياني، ولكن بالنسبة لنا كان مرتعا للهو ومقياسا للطيش. كل من عصى أهله وسبح في النهر فهو بطل. ما كان يفعل هذا إلا الأشاوس منا، وكانوا قلة، وإن كانت السباحة تتم في الحقيقة في إحدى السواقي الصغيرة المنبثقة عن النهر” (سيرة أفول، ص.63)
ويقول السارد، أيضا، في مقطع آخر من النص:
“.. لم تتوقف سطوة النهر فيما ذُكر، بل كانت له اليد العليا في اختيارات القرية السياسية والانتخابية. فمنذ كنا صغارا كان لموسم الانتخابات طعم خاص. خلاله يتذكر الجميع القرية وموقعها على الخريطة. ترش الساحة الرئيسة المتربة بالماء وتكنس، وتضرب الخيام وتعلق أعلام باهتة الألوان، بينما على منصة نصبت بالمناسبة ترقص “شيخات” على إيقاع موسيقى أقرب للعويل. تتوافد الوفود على متن سيارات أنيقة نال منها غبار الطريق غير المعبدة، يلج ركابها الخيمة الرئيسة دون الاهتمام بالحشد الملتف حول الساحة بينما أتباعهم ينفحون الصبية حلوى وبالونات مختلفة الألوان. ما كان يجري داخل الخيمة لا علم لنا به وإنما يصلنا بين الفينة والأخرى صدى تصفيقات وهتافات ليغادر الوفد الخيمة والقرية مسرعا وكأنه تخلص من عبء كبير. على وجوه من حضر اجتماع الخيمة علامات الارتياح والتفاؤل بقرب حل مشكل النهر والطريق في أقرب الآجال، خاصة وأن المقابل هين، أصابع مخضبة بالحبر وورقة ذات لون خاص توضع في صندوق. توالت مواسم الانتخابات واستبدلت الشيخات بمرتلي القرآن والأمداح النبوية، وخضبت أصابع كثيرة وتغيرت ألوان الأوراق وملئت الصناديق باسم النهر والطريق وما تغير من شيء…” (سيرة أفول، ص.69)
هكذا يبرز صوت الراوي، وهو يتحدث عن قريته، ليشكل نبرة حنين كان فعالا في الوقوف عند تفاصيل هامة من تفاصيل حياة سكان قريته، وعن قصص النهر وما ترتبط به من أحداث ووقائع، ونلمس كيف كان للنهر دور حتى في الاختيارات الانتخابية والسياسية بالقرية على الرغم من أن القرية ظلت على حالها، وما تغيرت سوى شكليات أوراق الانتخابات وألوانها، بينما ظلت القرية بدون طريق معبد وبدون مرافق مما تعد به الأحزاب المتعاقبة، ولكن الراوي وهو يرصد تحولات الحياة في القرية والنهر يقف بحنين عند تغيرات من مثل اختفاء حفلات “الشيخات” وبروز ظواهر أخرى تتصل بالانتخابات، إلى جانب اختفاء طقوس توزيع الحلويات والبالونات الملونة على الصغار. وفي رصد هذه التحولات يكمن حنين الراوي إلى زمن آفل، وإلى لحظات متعة عاشها صغار القرية في زمنها الماضي ولم يعد لها من أثر في زمن الحاضر.
وبالانتقال إلى نص “سيرة أفول” -الذي أخذت المجموعة اسمه- نجد أن سردية الحنين شكلت عموده الفقري، وأساس حركة أحداثه، وجوهر كينونة شخصياته. فهو نص نابع من الذاكرة، مستند إلى الاسترجاع وإلى إعادة إحياء الماضي في بناء تفاصيله الآسرة، وفي تأثيث عوالمه المتخيلة. إن هذه القصة تقوم على لعبة فنية محكمة قوامها محاولة السارد كتابة “سيرة ذاتية” لشخصية نكرة، لكن هذه الشخصية البسيطة (النكرة) تؤمن أن الناس البسطاء هم من يبني المجتمعات، وأن سيرهم أحق أن تعرف وتدون، وعلى أكتاف هذه النكرات قام مجد من يسمون عظماء ومفكرين (سيرة أفول، ص. 71). وهكذا كان النص صياغة لهذه السيرة الطافحة بالحنين إلى زمن مضى ولن يعود. زمن طنجة الدولية وزمن المغرب الذي كانت تتعايش فيه مختلف الملل والنحل والطوائف والأجيال في وئام وسلام-حسب بطل القصة-؛ مع رصد تحولات الحياة وتبدلاتها وما آلت إليه من تشوهات ومسخ. ولهذا كان هذا النص القصصي المشبع بالحنين نشيدا حزينا، وسيرة أفول تجلي انمحاء بهاء المدينة، وتراجع عنفوان بطل القصة وعزه، وتولي زمن المحبة والسلام. وبهذه السردية التي تنبش في الذي أفل واندثر كان المتخيل القصصي متخيل حنين بامتياز.
من خلال كل ما سبق نتبين أن سردية الحنين أدت دورا حيويا، وبعدا ديناميا في تشكيل متخيل أغلب نصوص مجموعة “سيرة أفول”. وأن الاندثار والأفول كانا حافزين سرديين ارتبطا بالحنين وحركا الأحداث والوقائع، كما شكلا جوهر كينونة الشخصيات القصصية، وكانا دافعا لأفعالها وردود أفعالها، مما جعل المتخيل السردي، والبناء الدلالي يتشكل من خلال هذه اللمحة الفنية والدلالية الهامة في المجموعة القصصية.

     محمد العربي كرانة، سيرة أفول، دار الإحياء للنشر والتوزيع، طنجة، 2024.