طهران تضرب تل أبيب وما هو آتٍ أعظم

طهران تضرب تل أبيب وما هو آتٍ أعظم

د. حامد أبو العز

في فجر الأحد، تغيرت قواعد اللعبة في المنطقة، ليس فقط على مستوى المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، بل على صعيد توازنات الردع العالمية. حين انهمرت موجات الصواريخ الإيرانية المتطورة على العمق الإسرائيلي، لم تكن مجرد استعراض عضلات، بل كانت رسالة مكتوبة بالنار والسرعة الخارقة أن إيران باتت تمتلك زمام المبادرة الصاروخية، وحققت اختراقاً نوعياً في هندسة الردع والتفوق التقني.
لقد كشفت الضربة الإيرانية عن مرحلة جديدة من السلاح الصاروخي، تتجاوز مرحلة الردع التقليدي إلى الضربة الكاسرة للهيمنة الدفاعية. حين تتحدث التقارير الأولية عن أكثر من 13 قتيلاً وأكثر من 300 جريح في قلب المدن المحصنة، فإننا لا نتحدث عن خلل في القيادة أو سوء تقدير، بل عن انهيار حقيقي في فعالية الطبقات الدفاعية متعددة المستويات التي طالما تباهت بها إسرائيل والولايات المتحدة.
صواريخ تتحدث بلغة المستقبل
من بين الصواريخ التي استُخدمت في الهجوم:
عماد: صاروخ باليستي بعيد المدى يتمتع بدقة توجيهية عالية ويستطيع تغيير مساره أثناء التحليق.
خيبر شكن: جيل جديد من الصواريخ الفرط صوتية، يطير بسرعة تفوق 12 ماخ، ويعتمد تقنيات شبحية ومناورة نشطة.
حاج قاسم: صاروخ يتمتع بتقنية التوجيه الذكي والدقة العالية إلى جانب قدرة على اختراق الحصون الدفاعية، تم تصميمه خصيصاً لضرب الأهداف المحصنة والاستراتيجية.
الصواريخ لم تكن فقط شديدة التدمير، بل كانت ذكية وتكتيكية إلى درجة أربكت أنظمة الدفاع المترادفة، التي تعتمد على الطبقات المتداخلة من القبة الحديدية و”مقلاع داوود” و”آرو-3″ ومنظومة ثاد ذات الصبغة الأميركية-الإسرائيلية المشتركة.
وعندما نتحدث عن خرق تلك الطبقات، فنحن لا نشير فقط إلى اختراق موضعي محدود، بل إلى فشل دفاعي جماعي على عدة جبهات متزامنة، حيث اخترقت الضربات مناطق مركزية مثل تل أبيب، رهفوت، بات يام، النقب الشمالي، ومصفاة حيفا، وهي مواقع تُعتبر خطاً أحمر في الاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية.
الاختراق لا يتم بالصاروخ وحده
لم يكن الأداء الإيراني نتيجة تفوق تكنولوجي صاروخي فقط، بل هو نتاج تكامل حربي إلكتروني وصاروخي واستخباراتي أتاح للصواريخ تفادي التتبع والاستهداف في اللحظات الحرجة. قدرة بعض الصواريخ على تنفيذ مناورات صادمة أثناء الطيران أربكت الحسابات الزمنية للأنظمة الدفاعية، التي تعتمد على سرعة القرار الآلي والرد الإلكتروني المحسوب.
ولم تكن هذه المناورات صدفة، بل جزءاً من تقنية إيرانية خاصة تعرف باسم “خدعة التشتيت الحركي”، وهي آلية تجعل الصاروخ يطلق انبعاثات مغناطيسية وشعاعية مضللة، ما يتسبب في تعطل مؤقت لأنظمة الرادار أو إجبارها على تتبع أهداف وهمية.
الصواريخ الفرط صوتية: ضربة تفوق الزمن
ربما لم يكن ما حدث مفاجئاً في ذاته، لكن المفاجئ هو مستوى النضوج الذي وصلت إليه الصواريخ الفرط صوتية الإيرانية. فـ”خيبر شكن” تحديداً، الذي كانت تظهر عنه تقارير غامضة سابقاً، أثبت في هذه العملية أنه منظومة مستقلة متكاملة ذات أثر حاسم على ساحة المعركة.
هذه الصواريخ لا تُعترض لأنها ببساطة أسرع من التفكير الآلي لمنظومات الدفاع الإسرائيلية. عند التحليق بسرعة تفوق 12 ماخ، لا يكون لدى الرادار وقت كافٍ لمجرد تمييز الهدف، فضلاً عن تحليله وتوجيه وسيلة اعتراض نحوه. وهو ما جعل الضربة الإيرانية ليست ضربة عددية بل ضربة نوعية تستهدف التوازن الدفاعي ذاته.
وقد لوحظ أن بعض الصواريخ سلكت مسارات منخفضة وشبه أفقية لتقليل بصمتها الرادارية، كما استخدمت رؤوساً حربية مزدوجة، لتفجير الطبقات الدفاعية قبل إصابة الهدف الفعلي، وهو ما يشير إلى تصميم ذكي يقصد إبادة المسار الدفاعي قبل الوصول إلى النقطة الحرجة.
نهاية أسطورة الردع الدفاعي وبداية العقيدة الإيرانية الهجومية
ما حدث فجر الأحد لم يكن عملية عسكرية تقليدية، بل كان إعلاناً مدوّياً بولادة مذهب عسكري جديد في المنطقة، مذهب لا يستند إلى التهديد بل إلى المبادرة، لا ينتظر الهجوم بل يُملي شروط المعركة. لقد كسرت إيران في ساعات معدودة الأسوار النظرية التي ظلّت تحيط بها إسرائيل أمنها لعقود، وأسقطت فرضية أن السماء محمية بمنظومات دفاعية “ذكية” قادرة على اعتراض أي تهديد.
لقد أصبح واضحاً أن القبة الحديدية لم تكن سوى مظلة وهمية حين تواجه سرعة تفوق الصوت، وتقنيات مناورات متقدمة، وقدرات استخباراتية دقيقة تضرب نقاط الضعف في العمق الدفاعي. الهجوم الصاروخي لم يكن مبنياً على كثافة نيرانية فقط، بل على فهم عميق للطبوغرافيا الإلكترونية للخصم، واستغلال ذكي لتوقيتات الانكشاف الراداري.
ضربات موجهة لأعصاب الاقتصاد
من اللافت أن بعض الأهداف التي ضُربت لم تكن رمزية أو عشوائية، بل مراكز حيوية في معادلة القوة الاقتصادية الإسرائيلية. مصفاة حيفا على سبيل المثال، لم تكن هدفاً ثانوياً، بل اختيرت بدقة لأنها تمثل شرياناً للطاقة والتصنيع، وضربها يعادل شلّ نسبة كبيرة من الدورة الاقتصادية الصناعية.
وبالمنطق العسكري، فإن توجيه ضربات صاروخية نحو مراكز الأبحاث العلمية ومجمعات الصناعات الدفاعية كمعهد “فايسمان”، لا يمكن قراءته إلا على أنه سعي لتقويض القدرة على الاستمرار في تطوير الردع التقني الإسرائيلي. الرسالة كانت واضحة: حتى القلب التكنولوجي لم يعد محصناً.
تفكك المفهوم الدفاعي الإسرائيلي
إسرائيل لم تخسر في هذه الضربة بضعة أرواح أو منشآت فقط؛ بل خسرت أهم ما كانت تملكه: ثقة الردع. فالصورة الذهنية لإسرائيل القادرة على اعتراض الصواريخ قبل وصولها، والقادرة على قلب المعركة خلال دقائق، تهاوت بالكامل. ليس فقط لأن الصواريخ أصابت أهدافها، بل لأن الهجوم لم يُرصد مبكراً ولم يُفكك في الجو، بل نفّذ كامل خطته ووصل إلى نهاياته، دون أن تتمكن الأنظمة من تشويهه أو تحييده.
وإذا كانت الدفاعات الثلاثية قد شلت أمام هذا الكمّ من الذكاء الصاروخي، فإن أي حديث عن تفوق نوعي أو استباقي لم يعد ذا معنى استراتيجي. لقد وجدت إسرائيل نفسها فجأة في وضع الطرف الذي يطلب التهدئة، وليس الذي يفرضها، وهو انقلاب تاريخي في المعادلة.
إيران: من الدفاع إلى فرض التوازن بالقوة
الهجوم الأخير لم يكن رداً متسرعاً، بل نتيجة تحول عقائدي في الاستراتيجية الإيرانية، انتقلت فيه من مرحلة الردع إلى مرحلة الهجوم الاستباقي المحدود الهادف. إيران لم تعد تنتظر التهديدات لترد، بل باتت تبادر بخلق معادلات جديدة، تفرض عبرها سقوف الصراع وقواعد الاشتباك.
ويبدو أن إيران قد أعدّت لهذا التحول سنوات طويلة، حيث أن نوعية الصواريخ المستخدمة، ومرونة أنماط الإطلاق، والقدرة على إطلاق دفعات متعددة من اتجاهات متباينة – من الأراضي الإيرانية ومناطق أخرى – تشير إلى قدرة لوجستية عالية وإدارة متقدمة للمعركة عن بُعد.
بل الأكثر من ذلك، أن الصواريخ الفرط صوتية لم تكن مجرد أدوات للضرب، بل اختبار عملي على الجاهزية التقنية للحرب الحديثة، حيث تسبق التقنيةُ الفعلَ العسكري، ويكون الصاروخ “حجة على الزمن”.
التوازن الإقليمي على عتبة جديدة
لا يمكن بعد الآن أن نتحدث عن شرق أوسط بقطب واحد للردع. إيران رسخت نفسها قطباً آخر يملك القدرة لا على الرد فقط، بل على المبادرة والتفوق العملياتي على أكثر الأنظمة الدفاعية تطوراً في العالم.
التبعات المحتملة ليست فقط في إسرائيل. فالدول الغربية التي ظلت تراهن على فرضية “الردع المحصور” أدركت أن إيران تجاوزت مرحلة الاكتفاء بالدفاع وامتلكت زمام المعركة الهجينة – تلك التي تجمع بين الصاروخ والإلكترون، بين الذكاء الاصطناعي والتوجيه الغريزي، بين السرعة والتخفي، في معادلة واحدة تفرض الهيمنة.
ربما ستكون هذه الضربة عنواناً لأكثر من مراجعة استراتيجية في دوائر واشنطن وتل أبيب. وربما ستُكتب كتب لاحقاً عن اللحظة التي انكشف فيها النظام الدفاعي بالكامل تحت وابل ناري إيراني مدروس. لكن ما لا شك فيه أن الشرق الأوسط اليوم مختلف عن يوم السبت، وأن إيران اليوم لم تعد مجرد قوة إقليمية، بل رقماً صعباً في هندسة ميزان القوى العالمي.
باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية
كاتب فلسطيني