من مصر إلى إيران: هل تخون الأمم؟

من مصر إلى إيران: هل تخون الأمم؟

د. ميساء المصري
بداية هذا المقال موجّه فقط للواعين سياسيًا، ولمن يدرك حجم ما بلغته الشعوب من إهتراء نضالي، وتفتت جمعي، وتقاعس عن اللحظة، وغيابٍ عن واجب التأريخ.
لنعترف أنه في كل لحظة اضطراب تهزّ الشرق الأوسط، وكل زلزال استراتيجي يعيد رسم خرائط السلطة والنفوذ، ينبثق سؤال صارخ لا يريد أحد أن يسمعه بصوت عالٍ: هل تخون الشعوب؟
حين اشتعل أطفال غزة تحت القصف، و تُركت بغداد تتآكل ، وذُبحت سوريا أمام عيون الملايين، وغرقت ليبيا في الفوضى، وينحر الجميع اليمن ، ومصر تُدار بالولاءات، وعلماء إيران يُستهدفون في وضح النهار، هل كان صمت الجماهير خيانة؟؟ وحين تفشّت العنصرية، واستوطنت الطائفية، وتمأسست الكراهية، رغم الدم المسفوك والخراب المستعر، هل كان ذلك سقوطًا ذاتيًا… أم انهيارًا مبرمجًا جرى هندسته بدقة عبر العقود؟ أم تم إستغلال الشعوب وما يزال .
من السهل أن نلوم الشعوب. لكن الحقيقة، المُرّة والمسكوت عنها، أن ما يبدو خيانة في ظاهره قد لا يكون إلا انعكاسًا لإنهيار أعمق: شعوبٌ أُرهقت وخُذلت، ثم خذلت نفسها. خُنقت من الأعلى، وتفسّخت من الداخل، حتى تحوّلت إلى جماهير مشلولة، مشتتة، غارقة في الإنكفاء والتوجس، بينما العالم من حولها يعاد تشكيله.
المعادلات تتغيّر على نحو متسارع حتى نكاد لا نستوعب ما يدور، والإقليم يدخل مرحلة إعادة تصنيع جيوسياسي غير معلنة، لكن محسوبة بدقة. كل ما يحدث في إيران، وسوريا، وغزة، ولبنان،والعراق و..غيرها ليس سوى فصول مترابطة من مشروع أكبر، يُدار بحرفية ويُنفذ على مراحل. في هذا السياق، يصبح الصمت الشعبي المديد مادة قابلة للتأويل: هل هو خنوع؟ أم دفاع غريزي عن الحد الأدنى من البقاء، في زمن صارت فيه المجازفة تمردًا، والإعتراض انتحارًا؟
المعادلة معقدة. الشعوب التي واجهت الإحتلال، والتجويع، والإنقلابات، والإستبداد، والفتن، ليست بريئة تمامًا، لكنها ليست مذنبة بالمطلق. لقد عاشت داخل أنظمة تُقصي وتمنع وتطارد، في ظل إعلام يتقن التخدير، واقتصاد يُفقِر، وخطاب ديني يُشطر ويقسّم، و”نخبة” تُشترى وتُستبدل كلما لزم الأمر. وسط هذا كله، تتآكل الإرادة، ويتراجع الوعي، ويصبح الصمت آلية دفاع أكثر من كونه موقفًا سياسيًا.
الجانب الأكثر إيلامًا ليس فقط هذا التراجع، بل كيف تحوّل التفتت الداخلي إلى قاعدة صلبة قائمة. لم تعد الطائفية والعنصرية والإنقسام المذهبي مجرد انحرافات إجتماعية، بل أصبحت أدوات للحكم، وآليات لتفريغ المجتمع من مشروعه الوطني. لم تُعالَج هذه الأورام، بل جرى تغذيتها وتمكينها، إلى أن صارت كل محاولة لبناء توافق أو وحدة تشبه العمل في حقل ألغام.
في موازاة ذلك، ازدهرت ثقافة الإنكفاء، وتم تجريم السياسة كفعل جماعي، وتم إحتقار الآراء، وتجويف النقابات، وتهميش الجامعات، وتجريم النقد، وتحويل الإعلام إلى أداة ترفيه وتطبيل وتسطيح. وهكذا، أصبح المواطن متفرجًا لا شريكًا، وغرق في معركة يومية من أجل البقاء وسط تضخم، وفقر، وتضاؤل فرص، في بيئة يُلاحق فيها الصوت قبل الفعل.
لكن، هل يعني ذلك أن الشعوب انتهت؟
إننا في أسوأ لحظات الإنهيار بالمعنى الفعلي للشعوب وباتت المقارنة بيننا وبين الشعوب الأخرى عالميا لا تفيد، نعم هناك ومضات تنبض في الهامش. ومضات لا تنتظم في حركة، تكسر السكون، وتؤكد أن النار لم تنطفئ تحت الرماد. لا تزال هناك شرائح تحلم بلحظة حق واستعادة، بشرط أن يكون هناك مشروع حقيقي، يتجاوز الفُرقة، ويعيد الإعتبار ، ويطرح رؤية واضحة، لا شعارات تعبوية فارغة.
هذا المشروع لا يمكن أن ينبثق من نخبة منفصلة، أو من دول تبيع الأمن مقابل الصمت. بل يجب أن يكون نتاج إعادة بناء الثقة بين الشعوب وقياداتها – قبل ان تترك الصهيوأمريكية ما لا يمكن الوثوق به. مشروع يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، يقوم على الشراكة لا السيطرة، على المشاركة لا الوصاية.
ولا يمكن أن ننسى دور النخبة الفكرية والسياسية، التي إما مرتهنة أو منسحبة و مكتفية بالنقد الموسمي أو التغريد في عوالم منفصلة. هذه النخب مسؤولة عن إعادة تأطير الخطاب، وبث الوعي السياسي، وطرح رؤى استراتيجية قابلة للتحقق، لا مثالية حالمة ولا انفعالية غاضبة .تمارس نرجسيتها على الشعوب.
بإختصار، الحديث عن الشعوب في هذا المفصل التأريخي الذي نمر به  ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة استراتيجية ضرورية جدا. فالمعركة المقبلة لا تُحسم بالجيوش وحدها، بل بوعي الشعوب وصحوتها. السكوت ليس خيانة بالضرورة، لكنه قد يتحول إلى ذلك، إن ظل مطبقًا في لحظات المصير.وتصبح العدوى أشد فتكا.
السؤال اليوم ليس فقط: هل تخون الشعوب؟
بل هل سيتاح لها أن تعود لاعبًا في مسرح الأحداث؟ أم أن اللعبة صُمّمت لتجري من دونها، وعلى حسابها؟
كاتبة ومختصة في الشؤون الإستراتيجية