د. خالد فتحي: تولوز.. مراكش في فرنسا

د. خالد فتحي: تولوز.. مراكش في فرنسا

د. خالد فتحي
لتعذريني يا تولوز، ما كان لي أن أتأخر عنك كل هذا الزمن. أتذكرين زيارتي الأولى إليك؟ كان ذلك منذ عشرين عامًا، ولم أكن يومها قد أدمنت فنّ التغزل والتشبيب بالمدن. لا شك أنك تمكنتِ من قلبي منذ النظرة الأولى، وقد بهرتني بجمالك الأخاذ. لكنني، وكما يفعل العاشق المتردد الذي يُؤخذ على حين غرة، كابرتُ وقاومتُ حبي لكِ، ومضيتُ في طريقي دون أن أكتب فيكِ حرفًا واحدًا. كم كنت بخيلاً حينها. الآن سأبوح لكِ بسر دفين. كنت أغالب حبكِ في صمت، لكني لم أتوقف يومًا عن ترشيحكِ لكل من يُولي وجهه شطر فرنسا. نعم، كنت أقول لهم: اذهبوا إلى تولوز لا إلى سواها.
هكذا هي الأيام، يا تولوز، تدور ولا تكف عن الدوران، فتعود بنا دومًا للمدينة الأولى…. وقد كنت أنتِ أول مدينة زرتها في فرنسا. أيُرضي غروركِ لو قلت لكِ إنني رأيتكِ قبل أن أرى باريس نفسها…، باريس التي يقال عنها إنها مدينة الأنوار، مدينة الجن والملائكة.
لقد تغنيتُ ومدحتُ مدنًا كثيرة قبلكِ: فاس، القاهرة، عدن، طرابلس، البيضاء…. وغفلتُ عنكِ حتى ظننتني متحيزًا. ربما قد أعرضت عنكِ لأوروبيتكِ… أنا المغرم حتى النخاع بجمال المدن العربية ودلالها، حيث الشمس والدفء وعبق التاريخ الضوّاع.
لكن اليوم غير الأمس. دقت ساعة الاعتراف. أنتِ أيضًا مشمسة ودافئة وأصيلة. أنتِ مدينة ذات هوية راسخة.. مدينة تمثل فرنسا في حلّتها البهية وفي أجمل أحوالها حين تقرر أن تكون على سجيتها الأولى… .
.لقد تلكأتُ عن الكتابة فيكِ، ليس عن تقاعس، أو لانطفاء جذوة الحنين إليكِ، ولا لأنني لم أجد الكلمات التي تليق بكِ، أو لأنني أعجز عن وصف ساحة الكابيتول الشهيرة بالأوبرا ولا بقصر البلدية الفخيم اللذان يسيجانها، أو نهر الغارون العظيم، ولا كاتدرائية لابازيليك سان سيرنان العريقة، أو طوبكِ الأحمر المميز الذي يرصّع جدرانكِ. ذاك أمر تولاه العشاق والهائمون بكِ على مواقع التواصل بالصور والمراجعات والانبهارات و”اللايكات”.
أما أنا، فكنت أطمح أن أنقل شيئًا أعمق: الأثر الجميل الذي تتركينه في النفس، ذاك السمت الاستثنائي، الإحساس الغامض اللذيذ بالبهجة والانشراح، الذي يعم القلوب، والذي لا تفسره المباني وحدها.
في تولوز، شيء غريب يحدث لك… ثلاثة أيام فيها تتحول إلى عطلة من ثلاثة أشهر. ورحلة قصيرة تصير رغبة عميقة في الإقامة. هي تمنحك الراحة حتى قبل أن تدخلها. فإن دخلتها، وجدت مطارًا صغيرًا، إجراءات سريعة، ووجوهًا فرنسية مشرقة بالابتسامات والترحاب، تبش في وجهك بلطافة وتودد… . لعل للجو المعتدل فيها تأثيرًا سحريًا على الأمزجة. فالناس، كما المدن، أبناء مناخهم.
تخرج إلى شوارع تولوز، فتتلفت حولك يمينًا وشمالًا، ثم لا تلبث أن تسارع لكي تتحقق من البشرة الشقراء لسائق التاكسي، تسأله أسئلة عادية جدًا فقط لتتأكد إن كان سيجيبك بفرنسيته الفصيحة أم بلهجة مغربية. يقع لك هذا، لأنك في تولوز، إن كنت مغربيًا بالخصوص، فستظن نفسك في مراكش الحمراء… أجل، الله يخلق أيضًا من المدن أربعين. وعلى الأقل بالنسبة لي، فإن تولوز تحاكي مراكش وتتأسّاها في أشياء كثيرة. حتى تكاد تكون توأمها الصنوي.
أرض تولوز منبسطة، بلا جبال ولا مرتفعات، فلا غرو إذًا أن تجدها تعج بالدراجين والدراجات، تمامًا كما هو الحال في أحياء جيليز والنخيل والدوّاديات في مراكش.
مراكش مدينة النخيل، وتولوز قد استبدلت ذاك النخيل بأشجار الصفصاف السامقة، التي لا تكف أوراقها عن الحفيف، وكأنها لحن موسيقي ملائكي يهمس بحنين دائم.
حتى الفنادق والبنايات تشبه في تراصها وتناسقها مباني مراكش.
جو تولوز يشبه حرارة مراكش، لكنه ألطف قليلًا بفضل نهر الغارون، أو ربما لأن طقس المدينتين توطّأ على أن يذكّر كل واحدة منهما بالقارة التي تنتمي إليها.
أتراه صدفة كل هذا التطابق؟ أم أن أجدادنا مرّوا من هنا، حين كانوا يسمونها طالوشة؟ هل يمكن أن تكون مراكش نسخة متأخرة من تولوز؟
فتولوز عريقة جدًا. إنها ترجع لثلاثمائة سنة قبل بعثة المسيح، والتاريخ يقول إن المسلمين وصلوا هذه المدينة.
ومنذ ذاك الحين بدأ التماس الأول معها.
تولوز تُشبه مراكش في روحها أساسًا، وفي التفاصيل الكبيرة ، هذا ما يظهر لي شخصيًا.  هي تشبهها حتى في التفاصيل الصغيرة….. في ذاك البطء الجميل الذي تتمدد فيه اللحظة ويتسع به  المكان مفسحا المجال للتأمل العميق.
في ضفاف نهر الغارون، حيث تمر من فوق الجسور القديمة، تسمع عزفًا مرتجلًا من موسيقي شاب، وتلمح الفرنسيين والفرنسيات، يجلسون في جماعات صغيرة يتبادلون الحديث والضحك. لنهر الغارون هذا حضور طاغٍ يبز به نهر النيل في القاهرة ونهر السين في باريس. تولوز هبة الغارون كما هي القاهرة هبة النيل. لأول مرة أشعر بأن مدينة داخلية، يمكن أن ننظر لها كمدينة ساحلية، يكفيها لذلك نهر متدفق دائم الجريان كنهر الغارون يغنيها عن البحر والمحيط.
تزور كاتدرائية بازيليك سان سيرنان فتسافر في الزمن  . وتدخل ساحة الكابيتول، فتراها مزدحمة تعج بالحياة والأنوار: شباب منطلق ،موسيقى، قهوة، ضحك، وهواء محمّل برائحة المخبوزات والبيتزا ومختلف المأكولات، وحرارة اللقاء. هناك، تتداخل الملامح والمشاهد وتتحد مع مثيلتها بساحة جامع الفنا، لا في الشكل بل في الروح: تلك القدرة اغعتوتلساحرة لبعض المدن على جمع كل شيء في قلب واحد.
ومع ذلك، تولوز ليست نسخة من مراكش، ولا الااغتففففتعكس. إنهما انعكاسان لجوهر واحد بلونين مختلفين. تولوز مدينة التكنولوجيا والفضاء، تحتضن كبرى شركات الطيران ومراكز الأبحاث، لكنها لا تتخلى عن دفئها الإنساني. ومراكش مدينة الروح والتاريخ، التي تُتقن المعاصرة دون أن تُفرط في أصالتها.
مدينتان تقفان على ضفتين مختلفتين، لكنهما تشتركان في إيقاع داخلي نادر يصعب تفسيره، في استطاعتهما الحفاظ على الهوية وسط تيارات الحداثة العارمة.
فيهما تُدجّن الأصالة المعاصرة وتُوظّفها لمزيد من ابتكار الأصالة.
وهنا، تظهر المفارقة الجميلة:
ما مراكش إلا نسخة ملونة من تولوز، وما تولوز إلا ظل خفيف من مراكش: تولوز، المدينة الوردية، ومراكش، المدينة الحمراء. أليس الوردي ظلًا ناعمًا للأحمر؟ أليسَا من تدرجات الضوء ذاته، حين يلامس الجدران والطين والذاكرة؟
وأعود فأقول ربما مرّ أجدادنا من تولوز… وربما، حين بنوا مراكش، كانوا يستحضرون هذه المدينة الفرنسية العبقرية على الضفة الأخرى. وربما، نحب تولوز لأن فيها صدى منّا، أو لأننا، دون أن ندري، نحب أن نرى أنفسنا في مدينة تشبهنا، وتدهشنا، وتستقبلنا كما لو كنا أبناءها.
في النهاية، تولوز لا تُنسى لأنها جميلة، بل لأنها تُؤلَف. تدخلها ضيفًا… وتغادرها وفيك شيء منها لا يغادرك، فتعدها بالعودة القريبة، وتصدق وعدك.