التكامل بين الجبهات بدلاً من المقارنات: تحليل للرد الإيراني الدفاعي

التكامل بين الجبهات بدلاً من المقارنات: تحليل للرد الإيراني الدفاعي

د. أميرة فؤاد النحال
في مشهد يعيد رسم موازين الردع في المنطقة، جاء الردّ الدفاعي الإيراني على العدوان الصهيوني الذي استهدف أراضي الجمهورية الإسلامية ليحمل أبعاداً تتجاوز الصواريخ والمواقع المستهدفة، فلم يكن الردُّ مجرّد فعل عسكري عابر، بل رسالة إستراتيجية أرادتها طهران مدروسة التوقيت والمسار، تعيد التذكير بأن زمن الاستفراد الصهيوني قد ولى، وأن معادلة تكامل الجبهات باتت حقيقة راسخة لا مجرد شعار.
وبينما انشغل البعض بتقزيم الرد، أو البحث في مقارنات سطحية بين ساحات المقاومة، كان الأجدر بالخطاب الإعلامي والسياسي أن يُدرك أن المعركة واحدة، والساحات تتكامل، والرد حقٌ مشروعٌ وأدّى وظيفته بذكاء في كشف هشاشة المنظومات الصهيونية وإرباك جبهته الداخلية.
في هذا المقال، نحاول قراءة دلالات الرد، وفهم السياقات التي جاء فيها، وتفنيد المقارنات المضللة التي تُطرح لتشتيت الوعي وتشويه حقيقة وحدة الجبهات.
في المشهد الإقليمي شديد التقلّب، لم يكن العدوان الصهيوني على الأراضي الإيرانية حدثاً منعزلاً عن سياق أوسع من إعادة رسم خطوط الاشتباك في المنطقة، فالكيان المؤقت المحاصر في أزماته دأب على تصدير مأزقه الداخلي عبر مغامرات محسوبة في ظاهرها، انتحارية في جوهرها، وهو ما مثّله استهدافه لعمق الأراضي الإيرانية، ولكن طهران في مقاربتها لهذا التصعيد، لم تنجرّ إلى خطاب الثأر الميداني الفوري، بل اتخذت طريقاً استراتيجياً للردّ الدفاعي المدروس، ضمن ما يمكن وصفه بـ(ردع محسوب بسقفٍ مفتوح).
يأتي الرد الإيراني في إطار ما تسميه الكاتبة (عقيدة التوازن التراكمي)، وهي عقيدة تقوم على تجميع نقاط الردع وفرض معادلات جديدة بهدوء تصاعدي، وليس عبر انفعالات مفاجئة، فالصواريخ التي أُطلقت لم تكن فقط رسالة عسكرية؛ بل كانت بمثابة (إشعار جيوسياسي بمغادرة زمن التفرد الصهيوني) في المجال الإقليمي.
إيران بهذه الضربة أخرجت الصراع من نمطه الاستخباراتي والغارات الغامضة، إلى مواجهة مكشوفة خاضعة لقواعد اشتباك جديدة، حيث لم يعد الكيان الصهيوني هو الجهة الوحيدة التي تملك قرار الفعل والتوقيت، وهنا يتجلى ما يمكن وصفه بـ (انقلاب الدور في هندسة الاشتباك)؛ إذ لم تعد المقاومة وحدها في موقع التلقي والرد، بل باتت تختار لحظتها، وميدانها، ومضمون رسالتها.
من جهة أخرى، فإن الخطاب الإعلامي المقاوم ملزم –في مثل هذه اللحظات– بعدم الوقوع في فخ السرديات المضلّلة التي تُقدِّم العدوان الصهيوني كدفاعٍ استباقي أو الرد الإيراني كتهور سياسي، فالتوصيف الصحيح وفق المعايير السيادية، هو أن طهران مارست حقّها المشروع في الرد الدفاعي على عدوان خارجي سافر، وهو ما تؤكده المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وما يلفت النظر هنا هو أن الكيان رغم تلويحه المستمر بالتفوق الاستخباراتي والتكنولوجي، عجز عن احتواء الرد أو التنبؤ بمداه الحقيقي، ما أعاد طرح سؤال جوهري على طاولة مراكز صنع القرار الدولية: هل دخلنا مرحلة تحطيم أوهام التفوق الصهيوني، وبدأت الدول الإقليمية في التحرّك وفق سيادة الإرادة لا منطق الردع الأمريكي المسبق؟
باختصار.. لم يكن الرد الإيراني مجرّد رد فعل على عدوان، بل إعلاناً محسوباً بتحول في قواعد الصراع، وانتقالاً من الاحتواء الصامت إلى الردّ المكشوف، ومن ردود الفعل الفردية إلى تناغم الجبهات السيادية في مشروع إقليمي يرفض الإملاء ويعيد تعريف الأمن القومي بمعايير مقاومة وواقعية.
جاء الردّ الدفاعي الإيراني في توقيت ذكي، يحمل في طيّاته ما يمكن تسميته بالتوقيت العقابي الرمزي، بعد أن وصلت منظومة الردع الصهيوني إلى لحظة الانكشاف الكامل، فلقد اختارت طهران لحظتها بعناية، لتقول إن الفراغ الاستراتيجي في سماء الاحتلال لم يعد شأناً نظرياً، بل واقعاً نارياً، أما الوسيلة –الصواريخ الدقيقة– فقد تجاوزت وظيفتها العسكرية؛ إذ تحوّلت إلى أدوات ناطقة برسائل سيادية، فهي لم تُطلق لقتل أو تدمير فحسب، بل لتُحدث أثراً سياسياً مدوّياً في تل أبيب وواشنطن، مفاده: “لم تعُد إيران خارج المعادلة، بل أصبحت من صُنّاع قواعدها”.
وقد قرأت “تل أبيب” الرسالة بوضوح، فشل المنظومات الدفاعية، توقف المطارات، وحالة الهلع في جبهتها الداخلية، أعادت إلى الأذهان مفهوم اللاجدوى الردعية، وطرحت على طاولتها سؤالاً جوهرياً: هل لا يزال الكيان يتمتع بتفوق استراتيجي أم أنه دخل زمن الندية؟
في أعقاب الرد سارع بعض الخطاب الإعلامي إلى خلق مقارنات ساذجة بين جبهات المقاومة، وكأن الرد الإيراني يجب أن يُقاس بأدوات الرد في غزة أو جنوب لبنان، لكن الحقيقة أن المعركة واحدة رغم تنوّع أدواتها، وأن ما يُضعف المقارنة يُعزّز التكامل.
الخطاب الصهيوني يحاول بشدة فصل الجبهات وتفكيك وحدة الساحات، لأنّه يدرك أن أخطر ما يواجهه ليس صاروخاً في السماء، بل فكرة الجبهة الممتدة من طهران إلى غزة، التي لا يحكمها مركز، بل توجّهها بوصلة المقاومة الكبرى، فوحدة الجبهات لا تعني التشابه في الشكل، بل الانصهار في الهدف، حيث أن إيران ترد بصواريخها، وغزة تُشاغل العدو بثباتها، والضاحية ترسم حدود التوازن؛ وبهذا تتكامل الساحات دون تماثل، وتتشابك الجبهات ضمن نَفَسٍ استراتيجي واحد.
أمام واقع أمني مضطرب وجبهة داخلية مفككة أطلقت طهران صواريخها، لكنها في الحقيقة فجّرت ما يمكن تسميته بالهشاشة العميقة للمنظومة الصهيونية، وعلى رأسها وهم (القبة الحديدية) التي طالما تسوّق كدرعٍ أسطوريّ، فإذا بها قشرة إعلامية تتهاوى أمام صواريخ دقيقة ومحدودة العدد.
تعطّل المطارات، وتجميد الحركة الجوية، وإغلاق الأجواء، كلّها مؤشرات على شلل ميداني حقيقي، يكشف كيف أن الضربة لم تصب السماء فقط، بل أصابت منظومة السيطرة والتحكم لدى الاحتلال، فما جرى هو انكشاف أمني وليس مجرد اختراق دفاعي، لكن الأخطر كان في الداخل الصهيوني نفسه، فقد دخل الرأي العام مرحلة يمكن تسميتها باللايقين الوطني، وهي لحظة تبدأ حين يفقد الجمهور ثقته بمؤسساته الأمنية، ويبدأ في طرح أسئلة وجودية بدلاً من أسئلة تكتيكية، وحين يتحوّل السؤال من: لماذا لم تُعترض الصواريخ؟ إلى: هل يمكن لهذا الكيان أن يصمد في ظل بيئة استراتيجية معادية ومتماسكة؟ فالضربة الإيرانية لم تكن نهاية مشهد، بل بداية انهيار مراكب التفوق الوهمي، وسط بحرٍ من التهديدات الممتدة، وجبهات متداخلة، وشعوب باتت ترى في الردّ لا الترقب خلاصاً من سنوات طويلة من الانكسار السياسي والعسكري.
في معارك السرد كما في معارك الصواريخ، من ينتصر في الكلمة يقترب من النصر في الوعي، ولهذا فإن دور الإعلام المقاوم لا يُقاس فقط بعدد التغطيات أو سرعة الخبر، بل بقدرته على تثبيت المفاهيم الصحيحة، وحماية الوعي الجمعي من التآكل تحت ضغط السرديات المعادية، وتوحيد المصطلحات ليس ترفاً لغوياً بل سلاح استراتيجي، حين نقول الرد الدفاعي الإيراني بدل الهجوم الإيراني، وحين نسمّي ما فعله العدو بالعدوان لا الاستهداف، فإننا نُحكم السيطرة على لغة الفهم السياسي ونمنع العدو من التحكم في الأطر المفاهيمية للصراع، هنا يصبح الإعلام المقاوم شريكاً في المعركة لا مجرّد ناقل لها، فالإعلام المقاوم الحقيقي هو الذي يؤرشف الرد، ويفكك الصمت، ويوحّد الرؤية، ويجعل من كل صاروخ فكرة، ومن كل فكرة موقفاً، ومن كل موقف قوة.
لقد رسّخ الرد الدفاعي الإيراني معادلة جديدة في الوعي الإقليمي: لم يعد الكيان الصهيوني هو من يفرض قواعد اللعبة، بل بات أيضاً رهينة لتوازن ردع تتعدد أطرافه وتتداخل ساحاته، وبينما يُعاد رسم خطوط الاشتباك، تبرز أهمية تثبيت المفردات، وتوحيد السردية، ومواجهة التشويش على وحدة الجبهات.
المعركة لم تعد مجرد تبادل ناري، بل صراع على المعاني، والمواقف، والسيادة، والإعلام المقاوم حين يحسن صياغة اللحظة، لا يواكب الحدث فحسب، بل يُعيد توجيه بوصلة الوعي الجماهيري نحو معركة التحرر الشامل.

كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي